“دين الكتمان” هو عنوان كتاب صدر مترجمًا عن الفرنسيّة في كانون الثاني/ يناير من هذه السنة. الأصل الفرنسيّ هو La religion discrète، أحد أشهر كتب الأكاديميّ الفرنسيّ الإيراني محمد علي أمير معزي. ويُعدّ أمير معزّي من كبار دارسي التّشيّع عامة والتشيع الاثني عشري المبكّر خاصة.
صدرت الترجمة عن “مدارات للأبحاث والنشر” بجمهورية مصر العربية، في أكثر من خمسمئة صفحة، مصدّرة بثلاث مقدمات، مقدّمة النّاشر ومقدّمة المترجمين ومقدّمة المؤلّف، ومذيّلة بفهرست مصطلحات الترجمة وبكشّاف جامع. وأمّا المترجمان فهما عبد الله جنوف المتخصّص في التشيع الاثني عشري، وله أطروحة منشورة في هذا الباب عن دار الطليعة بعنوان “عقائد الشيعة الاثني عشرية وأثر الجدل في نشأتها وتطوّرها حتّى القرن السّابع من الهجرة”، والأزهر الصقري المبرز في اللغة والآداب العربيّة. وكلاهما يدرّس بالمعهد العالي للعلوم الإنسانيّة بمدنين، في الجامعة التّونسيّة.
وتجدر الإشارة إلى أنّه لم يترجَم إلى العربيّة من كتب محمد علي أمير معزّي، على غزارة إنتاجه العلمي طوال أكثر من ثلاثة عقود، إلّا “دين الكتمان” و”معجم القرآن” اللذين صدرا متزامنين. وهذا أمر مؤسف، ولكنّه غير مفاجئ للعارفين بأحوال الترجمة وأهلها في الثقافة العربيّة المعاصرة.
ولا حاجة إلى التذكير براهنيّة موضوع التّشيّع في سياق عربيّ إسلاميّ ما زالت تتجاذبه صراعات الهويّة، وما زال للماضي البعيد تأثيره الصريح في الحاضر. ومن شأن هذا النوع من الترجمات لكتب علمية من الطراز الأول أن تتيح فهمًا أكثر عقلانيّة للماضي بما يعنيه ذلك من فهم أكثر عقلانية للحاضر.
يتكوّن الكتاب من أربعة أقسام، وفي كل قسم فصولٌ مجموعُها الكلّي أربعة عشر فصلًا، وكانت في الأصل مقالات علميّة تابع أمير معزّي نشرها على فترة زمنيّة بين سنتي 1992 و2005، ثمّ ضمّها في هذا الكتاب على ترتيب مفيد يغطّي تقريبًا عموم مراحل الظاهرة الشيعيّة وأهمّ تجلياتها الأصوليّة والعرفانيّة قديمًا وحديثًا.
فالقسم الأوّل، وعنوانه “أوائل الانبثاقات واللقاءات المبكرة”، يشتمل على فصلين، أحدهما نبش معمّق في عبارة “دين علي” التي يُروى أنّها معاصرة لعليّ نفسه، وصار لها وقعها إبّان حروب الفتنة الكبرى، والثّاني غوص نقديّ طريف في قصّة تأسيسيّة مختلقة، سعى من بنى حبكتها وطيّرها بين النّاس إلى أن يجعل آل البيت من ذريّة الحسين ثمرةَ زواج الحسين بن علي وشهربانو بنت يزدجرد، آخر كسرى فارسي قبل وقوع فارس بأيدي المسلمين. وقد أفاض المؤلف في رمزيات الحكاية والصلات التي تعقدها بين التشيّع والثقافة الإيرانيّة القديمة.
وفي القسم الثاني من الكتاب، وعنوانه “في طبيعة الإمام: التّلقين والثنوية”، ستّة فصول تدور على الإمام: ما يُعتقد من ألوهيّته، ووجوده في الأزل، ومعاريجه السماوية لتلقي العلوم السريّة، وما يكون له من المعجزات، وما يستحقّه من الولاء المطلق من المؤمنين الشيعة. وتكشف هذه الفصول، كما يمكن للقارئ أن يتبيّن من عناوينها، كيفيّة تمثّل الشيعة الأوائل لشخص الإمام، وتمثّل مفاهيم الولاية والبراءة.
وأمّا القسم الثالث، وعنوانه “الأعمال التّأويليّة والأعمال الروحانيّة” فيشتمل على ثلاثة فصول، أوّلها فصل مخصّص للنظر في قصيدة فارسية من قصائد العارف ملّا صدرا في مدح علي بن أبي طالب، والثاني موضوعه رؤى الأئمّة التي تُنقل عن بعضهم، ويؤطّرها بالمنام أو باليقظة، والثالث في الدّعاء من حيث كونه ممارسة تعبّديّة روحانيّة، لها خصوصيّاتها في التشيّع الاثني عشري.
إنّ صورة الإمام موجودًا بشريًّا وكائنًا ألوهيًّا، حضورًا في الكون مفارقًا وحضورًا محايثًا في قلب المؤمن، تجعل مطلب حياة ذلك المؤمن معرفةَ الإمام ورؤيته، وتصف الطرائق العرفانية التي وقف عندها أمير معزي رياضات روحية مختلفة من شأنها أن تجعل المتعبّد قادرًا على رؤية الإمام واستشعار حضوره فيه. ويجد المهتمّ بالطرق الصوفيّة الشيعيّة في فصول القسم الثالث، ولا سيما فصل الرؤية، الكثير من الإفادات والإحالات على نصوص، وبعضها مخطوط، للشيخية والذهبية والنعمة اللهية.
ويشتمل القسم الثالث من الكتاب على محاور متعلّقة بالأعمال الروحانية كقصص رؤى الأئمّة في المنام واليقظة، والأدعية والأذكار. ويجد المهتمّ بالطرق الصوفية الشيعيّة في فصول القسم الثالث الكثير من الإفادات، والإحالات على نصوص، بعضها ما زال مخطوطًا، للشيخية والذهبية والخاكساريّة والنعمة اللهية، وفيها وصف الرياضات الروحية التي يكون مبتغاها رؤية الإمام في القلب.
وأمّا القسم الرّابع والأخير ففيه ثلاثة فصول تدور على مبحث الأخرويّات الشيعيّة، سواء كانت وصفًا لوقائع الأيّام الأخيرة التي تشهد ظهور الإمام الغائب أو كانت وصفًا لتجارب روحانيّة تكون فيها مشاهدة هذا الإمام نوعًا من القيامة الفرديّة.
ولا يلخّص هذا التقديم المختصر أقسام الكتاب، ولكن ينبّه على أمرين. الأول أنّ الأقسام شاملة، ففيها البحث التاريخي في الماضي المبكّر، وفيها المعايشة المعاصرة لتجليّات الروحانيّة الشيعيّة. والثاني أنّها تقدّم فرضيّات بحثيّة طريفة، بعضها يعيد النظر في الكثير من الفرضيات التقليدية المتعلقة بالتشيع.
والفكرة الأولى من تلك الفرضيّات، جوهرها الخروج عن الرواية التي صارت تقليدية، القائلة إنّ التّشيّع بدأ سياسيا معتدلا ثم لحقت به المقالة العقدية وشابَهُ الغلوُّ. فأمير معزي يرى، في كتابه هذا، أنّ تقديس عليّ في السياق الشيعي بدأ في زمن مبكّر جدا، وقد يكون ذلك أثناء حياة الخليفة الرابع أو بعيد وفاته بزمن يسير، وأن التّشيّع منذ نشأته الأولى كان في قلب الباطنية، وما سيُعدّ لاحقًا مقالات غالية كإلهية الإمام وتحريف القرآن والمسخ وغيرها، إنما هو في الحقيقة مكوّنات الاعتقاد الإمامي في بداياته، ولم تصبح تلك المكوّنات غلوّا إلّا بعد أن انتصر المتكلّمون العقلانيون من الشيعة، وأعادوا صياغة المقالات العقدية التي تؤسس التّشيّع.
والفكرة الثانية هي الاستدلال المتين على الروابط المحكمة بين طبقات شخصية الإمام عند الاثني عشرية. فالإمام فيما يبينه أمير معزي أعمق من مجرّد الإمام التاريخي، أي علي وذريته. وإنما هو إمام أنطولوجي، له وجود مرتب من طبقات، أعلاها وأسماها الإمام من حيث هو وجود أزلي، وتجلّ أول لما يقبل التجلي من الذات الإلهية، ثم طبقة الأئمة التاريخيين وهم ظاهر ما يتجلى من الإمام الأنطولوجي، وطبقة ثالثة أخيرة هي إمام القلب، ويمثّل مشغل المتصوّف الشيعي في بحثه عن حقيقة الإمام في قلبه. وجميع هذه الطبقات في الحقيقة هي مراتب في تجلي حقيقة واحدة هي حقيقة الإمام الإلهي المخلوق في الأزل، والمكلّف عبر تجلّياته التاريخية بكشف باطن التنزيل للقلّة التي تستحقّ أن تتلقّى منه العلم السري.
وأمّا في الملاحظات على الترجمة، فيمكن ذكر الإشارات التالية:
– جمع المترجمان في عملهما بين منهجيّتين في مقاربة المصطلحات وأسماء العلوم، الأولى هي الإبقاء على المصطلحات الأجنبيّة بلفظها الأصلي الشائع في الاستعمال العربيّ، إذا كانت العربية تفتقر إلى مقابل عربيّ شائع مفهوم. فيجد القارئ اصطلاحات كالأنتروبوس Anthropos والكوسمي Cosmique وأسماء علوم كالانتروبوغونيا Anthropogonie والكوسموغونيا Cosmogonie. وقد برر المترجمان ذلك بأنّ “استبدال مهجور أو جديد لم يُؤلف بمشهور، لا يُفيد العربية في تفاعلها مع الاصطلاحية العلمية الحديثة، وهي اصطلاحية صارت بألفاظها الأعجمية معروفة عند جمهور المختصين، وحتى عند أعداد معتبرة من القراء العاديين”.
وتتمثّل المنهجية الثانية في الاستفادة من ممكنات اللسان العربي الواسعة في نحت ترجمات محدثة، ومن الأمثلة على ذلك الاستفادة من الثلاثي “متن” في ترجمة كلمة tradition (تُترجَم عادة بـ”التقليد”) بالمتْنيّة، أو الثلاثي “بصر” في تعريب معنى تلقي العلوم السرية الذي تعبر عنه في الفرنسية مشتقات initiation
– يستطيع القارئ أيضًا أن يلاحظ حرصًا واضحًا من المترجمين على الكتابة بجملة عربيّة لا يشعر معها القارئ إلا فيما ندر بأثر العجمة. ويصحب ذلك الحرصَ جهدٌ في وضع علامات الإعراب في المواضع التي قد تلتبس على القارئ خصوصا في الشّواهد القديمة. فلا يجد القارئ غيرُ المتخصّص المكتسبُ للضروريّ من معرفة التشيّع، عسرًا في قراءة الكتاب وفهمه، ولا تواجهه المشكلات التي تثيرها عادة الترجمات الحرفية التي تجعل القراءة متعسّرة. وقد بذل المترجمان جهدًا واضحًا في تتبع الشّواهد والعودة بها إلى متونها العربيّة والفارسيّة. وهو أمر ليس بالبساطة التي قد يوحي بها ظاهر الأمر، فنحن إزاء كتاب غزير الشّواهد، ومنها ما تختلف نسخه المحقّقة، ومنها ما أخذه المؤلف من أصله المخطوط. ولم يقتصر عمل المترجمين على توثيق الشّواهد، وتخريجها من مصادرها، وإنما ناقشا في مواضع اختيارات المؤلف، وهي اختيارات تحدّدها العلامة الإعرابية أو بناء الفعل للمعلوم أو بناؤه للمجهول. ولعلّ هذه الدقائق هي التي جعلت المترجمين يختاران وضع علامات الإعراب في مواضع كثيرة من عملهما.
– المواضع التي تدخّل فيها المترجمان بالشرح والتوضيح معدودة، وكان الأمر في الضرورات فقط وبأسلوب مختصر، ونرى أنّ هذا الاختيار يناسب حجم الكتاب وعدد صفحاته. ويُفسَّر الاقتصاد في التدخل أيضًا بأنّ المؤلف، ولا سيما في هوامش الكتاب الثرية، كثيرًا ما شرح بنفسه ما يحتاج إلى الشرح.
ويمكن القول أخيرًا إنّ هذه الترجمة جاءت لتملأ فراغًا كان لا بدّ من ملئه، فنصوص أمير معزي عامة، ونصه هذا خاصّة، ضرورية للمكتبة العربية.