غزة ـ السويداء: خيارات تتآكل ومصائر تُصادَر

في الشرق الأوسط، لا شيء يُدار إلا بمنطق القوة. إذ، كثيرًا ما بُنيت ديناميات هذه المنطقة على قاعدة راسخة: توازن القوى. هذه القاعدة تكاد تكون القاعدة الوحيدة التي تُهيمن على تفكير اللاعبين المحليين والإقليميين والدوليين، على الرغم من أن هؤلاء جميعهم يتغنّون، في الوقت ذاته، بحقوق المُواطَنة، وقيم العدالة، وحتى الكرامة الإنسانية، لكن في حقيقة الأمر، هم يدركون أنه لا مكان لهذه المفاهيم ًاضمن حدود هذه المنطقة ما لم تكن مدعومة بتوازنات سياسية وأمنية، وعسكرية رادعة على نحو خاص.

في هذا الوضع الصارخ في قسوته، يصبح لا أثر لأي عمل نضالي أو سياسي أو حقوقي على الأرض ما لم يبدأ بمراجعة أدواته النضالية وتحديث وسائله العلمية والعملية، كي يستطيع التأقلم مع منطق هذه البيئة القاسية.

ما يحدث اليوم في غزة، والسويداء، يكشف حجم الواقع المأزوم الذي تعيشه دول المنطقة وشعوبها، ويكشف معه أيضًا ضرورة التغيير المطلوبة للقوى الفاعلة والراغبة في نقل هذه الشعوب للعيش بسلام وأمن وحرّية.

أسئلة موجعة يفرضها علينا واقع صادم ولا يمكن تجاهلها. دماء تُسفك كل يوم، بيوت تُدمّر، ومدنيون يُدفَعون إلى حافة الفناء نتيجة قرارات يتخذها آخرون نيابةً عنهم. في المقابل، تُصرّ القيادات على المضي في مسارات مسدودة، لا أفق فيها سوى المزيد من الخراب. فهل ما تفعله قيادة حماس اليوم يقرّب الفلسطينيين من الحرية والكرامة التي ناضلوا لأجلها لعقود؟ وهل يفتح الشيخ حكمت الهجري، من خلال أسلوبه الحالي، الطريق أمام دولة مدنية ديمقراطية نادى بها دائمًا أبناء السويداء من ساحة الكرامة؟ أم أنه يزجّ بهم في مواجهات عبثية، لا يخرج منها أحد منتصرًا؟

غزة: المقاومة إلى أين؟

منذ السابع من أكتوبر 2023، دخل قطاع غزة في نفق إنساني لا يُحتمل. يعيش الفلسطينيون واحدة من أسوأ الكوارث في تاريخهم: مجاعة، قصف مستمر، دمار شامل، موت يومي صار روتينًا، وانهيار تام للبنية الصحية، وسط انتهاكات لم تعد استثناء بل قاعدة يومية. في ظل هذا الواقع المأساوي، يبرز سؤال ملحّ ومشروع لقيادة حركة “حماس”: ما الغاية من الإبقاء على أسرى مدنيين إسرائيليين، في مقابل هذا الحجم الهائل من الدمار؟ ولماذا لا تُبادر القيادة إلى إنهاء هذا الملف، وتسحب بذلك من إسرائيل ذريعة “الرد” التي تمنحها غطاءً دوليًا لاستمرار القتل؟

هل تستحق ورقة الرهائن هذا الثمن الفادح؟ وهل يُعدّ استمرار احتجازهم فعل مقاومة، في وقت يُباد فيه شعبٌ بأكمله تحت هذا الغطاء؟ أليس في تسليم المختطفين خطوة سياسية وإنسانية تُحرج الاحتلال وتنزع منه شرعية القصف؟ ألم يكن من الأجدى، إنسانيًا وسياسيًا، الإصغاء لصوت الجوعى، والثكالى، والأمهات المفجوعات بأبنائهن، بدلًا من تغليب الحسابات الفصائلية والولاءات الإقليمية على حياة الناس؟

يتساءل كثير من الفلسطينيين والعرب اليوم: هل تحوّلت المقاومة من وسيلة للتحرر إلى أداة للبقاء في الحكم؟ من مشروع وطني جامع، إلى سلطة أمر واقع؟ ما يجري في القطاع يكشف مدى خطورة هذا التحول الذي يُفرغ المقاومة من معناها. ومن هنا، تبدو الحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى مراجعة جذرية داخل “حماس” تعيد الاعتبار للإنسان الفلسطيني، وتُقدّم مصلحته على كل ما عداها من حسابات ضيقة.

غوتيريش: حياد أم عجز؟

والأسوأ من ذلك، أنه بات لدينا شعور مؤلم بأن ثمة توافقًا دوليًّا وإقليميًّا خفيًّا لترك غزة تنزف. وكأن حماس، من حيث تدري أو لا تدري، أصبحت جزءًا من لعبة إقليمية، تخدم بقاء الاحتلال أكثر مما تهدّد وجوده. والنتيجة أن الفلسطينيين والإسرائيليين، على حدٍّ سواء، يدفعون ثمن سياسات المجتمع الدولي وازدواجية المعايير إلى جانب الدور الرمزي الهش الذي تقوم به مؤسسات أمميّة وعلى رأسها الأمم المتحدة ورئيسها أنطونيو غوتيريش الذي بدا منذ بدء الحرب في غزة، عاجزًا تمامًا عن الخروج من الخطابات التكرارية، من قبيل “القلق” والدعوة إلى وقف إطلاق النار. تلك الدعوة التي فقدت فاعليّتها تمامًا في ظل المأساة الطويلة التي يعيشها المدنيون. أليس من الأجدى للسيد غوتيريش أن يتخذ خطوة رمزية ذات وزن، كأن يقدّم استقالته من منصبه احتجاجًا على الصمت الدولي، أو استنكارًا لمدى عجز المنظمة الأممية عن وقف المأساة؟ فقد يكون في إمكان هذه الاستقالة، إن حدثت، أن تعيد، على الأقل، توجيه الأنظار نحو فشل النظام الدولي في حماية المدنيين؟ ربما لن توقف الحرب، لكن ربما تُسرّع من ظهور مقاربة جديدة وأدوات مبتكرة أكثر إنصافًا وأقرب إلى الإنسانية.

السويداء والانغلاق في الجغرافيا

في الجنوب السوري، وتحديدًا في محافظة السويداء، مأساة أخرى تتكشّف. الحراك الذي قاده الشيخ حكمت الهجري، وبدأ بشعارات مدنية علمانية وديمقراطية مستمدة من ساحة الكرامة، انحرف تدريجيًا نحو خطاب انفصالي، وسلوك مسلّح، بل وطلب الحماية من إسرائيل. هذا التحوّل استدعى تدخّل تحالفات عشائرية عربية، ساهمت في تضييق الخناق على السويداء، ليدفع المدنيون الثمن مرّة أخرى، من دون أن يكون لهم يد فيما يُقرَّر باسمهم.

مع تصاعد التوتر وقرع طبول المواجهة، يجد أهالي السويداء أنفسهم أمام خيارات مفروضة، لا قدرة لهم على تغييرها. كان من الممكن لهذا الحراك، الذي انطلق من ساحة الكرامة بوصفه أنموذجًا للتغيير السلمي، أن يستمر في الضغط السياسي والحقوقي، وأن ينتزع مكاسب مدنيّة تدريجية في مرحلة انتقالية شديدة التعقيد. لكن التسلّح، وغياب الرؤية السياسية الشاملة، والارتهان لقوى خارجية، حوّل المشروع من حراك وطني واعد إلى حركة موضعية محصورة بالجغرافيا والانتماء.

وهنا يُطرح السؤال الذي لا مفرّ منه: هل يسعى الشيخ الهجري حقًا إلى دولة مدنية ديمقراطية، كما طالب بها ثوار ساحة الكرامة؟ أم أن الانغلاق، والسلاح، والانفصال عن المحيط السوري، كانت أهدافًا ضمنيّة لفئة ضيّقة تدير المشهد باسمه؟ ألم يكن من الممكن تحقيق خطوات ملموسة عبر الحوار الوطني والانخراط في المشروع الديمقراطي الأشمل؟ أم أن المسار المسلح بدا أسرع، على الرغم من تكلفته الباهظة في أعين من قادوا هذا التحوّل؟ وهل كان محتومًا أن نصل إلى هذه اللحظة، أم أن خيارات أكثر حكمة كانت ممكنة ومُتاحة؟

مسؤولية الدولة: غائبة أم مقصّرة؟

هل الشيخ الهجري وحده هو المسؤول عما آلت إليه الأوضاع في الجنوب السوري، أم أن الدولة السورية الجديدة تتحمّل جزءًا من المسؤولية، ولا سيَّما إذا ما قارنّا بين موقع الدولة، بوصفها كيانًا جامعًا لكل أبنائها، وبين دور رجل دين يمثّل شريحة محدودة من المجتمع؟ فالدولة، بحكم مؤسساتها ومسؤولياتها، هي الأقدر على امتصاص التوترات وتدوير الزوايا بما يخدم مصلحة الوطن والمواطن.

من هنا، يبرز تساؤل مشروع: ألم يكن بالإمكان أن تبعث حكومة دمشق برسائل طمأنة إلى أهالي السويداء، تؤكّد فيها أن الصراع ليس موجّهًا ضدهم، بل ضد من يرفع السلاح وحسب؟ وهل كانت هناك فرصة لتأمين ممرات آمنة للمدنيين قبل اندلاع المواجهات الدامية بين مجموعات مسلحة محسوبة على الهجري وقوات العشائر العربية، بحيث يُحصر الصراع في نطاقه الضيق، ويُجنّب المدنيين ويلات الحرب؟

ما حدث على الأرض يشير إلى خيارات رسميّة لم تُراعِ تعقيدات الواقع المحلي في الجنوب. وها هم اليوم أبناء السويداء المدنيون يجدون أنفسهم بين فكي كماشة: من جهة السلاح، ومن جهة أخرى الفزعة العشائرية، لتُصادر خياراتهم ويُزجّ بهم كغطاء شعبي في صراع لم يختاروا الانخراط فيه.

خسارة السويداء إضعاف للمشروع الديمقراطي

منذ انطلاقة الثورة السورية عام 2011، شكّلت السويداء إحدى أبرز القلاع التي عبّرت عن التزامها المدنية والديمقراطية والحرية. فقد اختار معظم أبنائها النأي بأنفسهم عن المشاركة في آلة القمع التابعة للنظام، وفضّلوا التمسّك بموقف أخلاقي ينسجم مع تطلعات السوريين وثورتهم السلمية ضد الاستبداد. هذا الموقف منح الحراك السوري طابعًا مدنيًا متعدّد الهويات، عكس تنوّع المجتمع السوري ورغبة شرائحه المختلفة في التغيير.

لكن اليوم، ومع انزلاق بعضهم في السويداء نحو العزلة والاحتماء بالسلاح، نشهد تراجعًا مقلقًا في هذا الدور، ما يُمثّل خسارة كبيرة للتيار الديمقراطي داخل المشهد السوري الراهن. فهذه الخسارة لا تقتصر على الجغرافيا، بل تمتد إلى البُعد الرمزي والفكري، حيث إن غياب المكوّن الدرزي عن الساحة الوطنية يضعف المشروع المدني بأسره، ويهدد تنوّعه وتوازنه.

ويزداد هذا الغياب وطأةً في لحظة مفصلية، مع حلول الذكرى المئوية الأولى للثورة السورية الكبرى التي قادها سلطان باشا الأطرش، أحد أبرز رموز النضال الوطني السوري. فكيف يمكن للسوريين أن يحتفلوا بقرن على تلك الثورة في ظل تغييب أو تغيّب أبناء السويداء عنها، وهم الذين مثّلوا أحد أعمدتها الأساسية؟!

المثقفون… وارتداد الهويات

كشفت المواجهة في السويداء هشاشة الخطاب الثقافي السوري الوطني، إذ سرعان ما عاد كثير من المثقفين إلى انتماءاتهم الطائفية، متخلّين عن خطابهم السوري الجامع عند أول اختبار حقيقي. بدا وكأنّ مفاهيم الدولة المدنية، الديمقراطية، والعلمانية ليست سوى شعارات نخبويّة بلا امتداد فعلي في المجتمع. وهو ما يطرح بإلحاح ضرورة مراجعة شاملة لدور الثقافة والمثقفين، وإعادة تفعيل أدواتهم في دعم مسارات التحوّل الديمقراطي في المنطقة.

ما يجري اليوم في غزة والسويداء يبعث برسالة واضحة: الأدوات القديمة استُهلكت وفقدت جدواها. لا السلطة بما هي عليه الآن، قادرة على الحل، ولا المعارضة بصيغتها التقليدية ًافي إمكانها تقديم البديل. لا المقاومة على طريقتها الحالية تنجز التحرير، ولا الصراع المسلح يفتح بابًا للمستقبل. حتى بيانات التنديد الأممية لم تعد تملك أي فاعلية أمام مشاهد الدم المتكررة.

منشورات آخرى

صدر حديثاً