الإسلام السياسي وتوريط الله: من الترويض إلى التوظيف

1- الله لا يُختزل، ولا يُستخدم، ولا يُستدعى لتثبيت راية أو إسقاط خصم

ومع ذلك، فإن ما جرى -وما زال يجري- داخل مشاريع الإسلام السياسي، هو نوع من التصرّف بالمقدّس وكأنه رصيد قابل للتسخير. فمنذ اللحظة التي بدأ فيها الإنسان يُعيد تشكيل صورة الله على مقاسه السياسي، لم يعد الإيمان تجربة روحية، بل تحوّل إلى لافتة تُرفع، وإلى شعار يُستدعى لتبرير مواقف، أو إدانة خصوم.

في هذا التحوّل، تبرز ثنائية مركزية تقود هذه الأطروحة: من ترويض الله إلى توريطه.

الترويض لم يكن إعلانًا صريحًا، بل عملية تأويلية مزدوجة: ضبط المعنى الديني ليس بما يتطلبه النص، بل بما يخدم استراتيجية الجماعة. فُصّلت المفاهيم، وأُعيد ترتيب الأولويات، واستُبدلت المقاصد الكبرى بمفردات التعبئة: الحاكمية، الولاء، الطاغوت، الأمة… كلمات أصبحت جهازًا مفاهيميًا لحشد الأتباع وتحقيق النفوذ.

ثم جاء التوريط. لم يعد الله مرجعًا صامتًا، بل صار يُتكلم باسمه، وتُقرأ إرادته في نتائج الانتخابات، أو في انتصارات عسكرية، أو في قرارات سياسية. الغضب الإلهي يُفسَّر كخسارة، والرضا يُحتفل به كنصر. وبهذا، يتحوّل الإله من كائن متعالٍ، إلى طرف حاضر في اللعبة السياسية، بل “المتحدث الرسمي” في كثير من الأحيان.

هذه الأطروحة لا تهاجم الدين، ولا تدافع عنه. إنها تحاول فقط أن تفكك كيف يصبح المقدّس مادة أيديولوجية. كيف تُستدعى صورة الله لتأسيس خطاب سلطوي، لا روحي، وكيف تتحول العقيدة من تجربة حرة، إلى منظومة انضباط حزبي.

لا يتعلق هذا المسار بفشلٍ أخلاقي أو تحريف متعمد فحسب، بل بمنطق سياسي ينتج تأويلًا دينيًا يخدم مشروعية القوة. ما يُدرس هنا هو الإسلام السياسي بما هو مشروع تعبئة وتعبير عن توتر عميق بين الحاجة إلى الإيمان، والرغبة في السيطرة.

ليست هذه دراسة لاهوتية، ولا دفاعًا عن إسلام ما، بل هي محاولة عقلانية لتفكيك ظاهرة معاصرة تدّعي الحديث باسم الإله، بينما تُوظّفه.

فحين يُستعار الله لتبرير السلطة، لا يعود المُقدَّس دليلًا على المطلق، بل يتحوّل إلى قناع يخفي فراغ الإنسان، وقلقه أمام وجودٍ بلا يقين، ومعنى بلا أفق.

2- المفهومات والمنهج: تفكيك اللغة، فضح البنية

ظهر الإسلام السياسي في لحظة تاريخية مفصلية، حيث كانت الأنظمة السياسية الحديثة – بما تحمله من مفهومات الديمقراطية، الحرية، العدالة، المساواة، والمواطنة – قد بدأت تُقارب الدين لا كمصدر إلهام، بل كإشكال. وفي هذا السياق، لم يُقدّم الإسلام السياسي نفسه كمجرد حركة إصلاحية أو وعظية، بل كمشروع بديل، يطمح إلى إعادة تعريف المفهومات السياسية الحديثة بلغة دينية مُغلقة.

وهكذا، بدأ يُطرح مفهوم الشورى بديلًا من الديمقراطية، لا بوصفها تجربة بشرية تحكمها آليات التمثيل والمساءلة، بل كمفهوم شرعي خاضع لتأويل النص وتقييدات الجماعة. وحلّت العدالة الإلهية محل العدالة القانونية أو الاجتماعية، بما يعنيه ذلك من تأجيل للمسؤولية، وغموض في المعايير. وبدلًا من الشفافية كمبدأ مؤسسي حديث، جرى استحضار مفهومات مثل “النية”، و”البيعة”، و”السمع والطاعة”، لتُصبح هي أدوات ضبط الجماعة.

هذا الاستبدال المفاهيمي لم يكن لغويًا فقط، بل كان تأسيسيًا: لقد أراد الإسلام السياسي أن يُعيد بناء المجال العام على أساس ديني صرف، يحتكر التأويل، ويصادر المفهومات الحديثة بوصفها مستوردة أو منحرفة عن الأصل.

لكنّ هذا المشروع يواجه مفارقة بنيوية عميقة: فهو يتحدث بلغة المطلق، لكنه يتحرك ضمن شروط الممكن. يُؤسّس شرعيته على نصوص متعالية، لكنه يمارسها ضمن وقائع تاريخية متغيرة. يرفع راية “الحاكمية لله”، لكنه يُدير تنظيمًا، يعقد تحالفات، ويناور مثل أي فاعل سياسي آخر.

لذلك، لا يمكن تحليل الإسلام السياسي بوصفه امتدادًا تلقائيًا للإسلام، ولا بوصفه مجرد تعبير عن تديّن اجتماعي. إنه بنية مستقلة من التأويل والممارسة، تُنتج عالمًا مفاهيميًا خاصًا بها، وتُعيد تركيب العلاقة بين الإنسان، والنص، والمجتمع.

لن تكتفي هذه الأطروحة بالتحليل الظاهري أو التأريخ للوقائع. بل ستعتمد منهجًا نقديًا بنيويًا، يتعامل مع خطاب الإسلام السياسي بوصفه بنية سلطة، تُنتج مفهوماتها، وتُعيد تشكيل الوعي الجمعي، وتؤطّر علاقتنا بالمقدّس، والمجتمع، والذات.

سيجري التعامل مع اللغة كأداة للضبط، لا للتعبير فقط؛ ومع الشعارات كمؤشرات على توتر عميق بين الدين كمجال إيماني، والسياسة كمجال للمصالح والمساومات.

ما سنقوم به هو تفكيك البنية الخطابية والمعرفية التي تقوم عليها هذه الظاهرة، لا من أجل معارضتها بمنظومة قيم بديلة، بل لفهم كيف تعمل، وما الذي تُنتجه على مستوى المعنى والسلطة.

وحين تُستبدل لغة الإنسان بلغة تُقال نيابةً عنه، يفقد القدرة على التعبير، ثم على التفكير، ثم على الوجود ذاته. فكلما ارتفع صوت المقدّس المؤدلج، تراجع الإنسان خطوة عن نفسه.

3- النشأة: عندما وُلد التنظيم من رحم الفكرة

ليست كل عقيدة تُنتج تنظيمًا، لكن كل تنظيم عقائدي يبدأ من لحظة قطيعة: قطيعة مع الواقع القائم، مع المفهومات السائدة، ومع التصورات المعتادة للإنسان والمجتمع والدولة. الإسلام السياسي لم يكن مجرد تطور طبيعي في بنية التدين، بل لحظة انحراف معرفي وإعادة تموضع للخطاب الديني داخل فراغ سياسي وروحي أحدثه الإخفاق المتراكم للأنظمة الحديثة في العالم الإسلامي.

  • الاستبداد كبيئة حاضنة

في ظل أنظمة شمولية رفعت شعارات التقدّم والعدالة، ثم فرّغتها من معناها، نشأ الإحساس العام بأن المشروع السياسي الحديث قد خذل المجتمعات التي وُعدت بالنهضة. دكتاتوريات لم تُنتج إلا البيروقراطية، والقمع، وشكلانية سياسية تُخفي العجز. ومع سقوط الشعارات، بدأ البحث عن خطاب بديل يمنح المعنى ويعيد الهيبة المفقودة، وهنا جاء الإسلام السياسي ليملأ الفراغ، لا لأنه كان الأذكى، بل لأنه كان الأكثر قدرة على استثمار الفشل.

في لحظة تأكَّلت فيها شرعية الدولة، لم يجد الإنسان ما يحتمي به إلا اللغة الدينية التي لم تُمسّ بعد. أما الأنظمة، فكلما عجزت عن البناء، زادت من توظيف الرمزية الدينية لتأجيل الأسئلة، وتبرير القمع، وتسويغ الخضوع. بهذا المعنى، كانت الأنظمة القمعية شريكًا غير معلن في صناعة المناخ الذي أنبت أولى ملامح التنظيمات الإسلامية.

  • القطيعة بين النخبة والمجتمع

في السياق نفسه، سلكت النخب الحداثية طريقًا منفصلًا عن المجتمعات التي ادّعت تمثيلها. لم تكن المشكلة فقط في نقد الدين، بل في الطريقة التي تم بها هذا النقد: من علٍ، بلغة نخبوية، وباستخفاف بالتراث الشعبي الذي ظلّ يتشبّث بالمقدّس بوصفه ملاذًا لا قيدًا.

وحين تخلّت النخب عن سؤال المعنى، وتركت الدين في هامش الثقافة الجماهيرية، تمدّد الإسلام السياسي لا ليجدد الدين، بل ليملأ تلك المساحة المهجورة. لم يكن انتصاره نابعًا من قوة طرحه، بل من هشاشة خصومه.

  • الدولة ومقدّساتها المصنَّعة

بعض الأنظمة التي ادّعت العلمانية، لم تتخلّ عن الدين فعليًا، بل أعادت تشكيله على مقاسها: مفتٍ رسمي، خطبة موحّدة، إعلام تعبوي، مؤتمرات فقهية تدور في فلك السلطة. لكن هذه الممارسات، بدلًا من أن تفرّغ الخطاب الديني من توتره، حوّلته إلى أداة طيعة فاقدة للثقة، وأتاحت الفرصة لتنظيمات إسلامية لأن تطرح نفسها بوصفها الصوت النقي، غير المرتبط بالدولة.

هكذا، وبفعل الإفلاس الرمزي، أصبح من السهل أن يُصدّق الناس أن الحقيقة في مكان آخر، وأن المشروع الحقيقي يمر عبر الجماعة، لا الدولة.

  • التنظيم كبديل عن الدولة والذات

في هذا السياق، لم يعد التنظيم مجرد إطار للعمل الإسلامي، بل مشروعًا كاملًا لإعادة بناء العالم. يتحوّل المتدين إلى عنصر في منظومة شاملة، له هوية جديدة، لغة جديدة، علاقة جديدة بالله والناس والتاريخ.

في التنظيم، لا يُترك الإنسان لقلقه الوجودي، بل يُحقن باليقين. لا يُدعى إلى طرح الأسئلة، بل إلى حمل الشعار. يصبح المقدّس وظيفة، والتكليف وسيلة للضبط، والانتماء مقياسًا للحقيقة.

ما بدأ كردة فعل، تحوّل إلى بنية، ثم إلى سلطة. هكذا وُلد الإسلام السياسي، لا من جوهر الدين، بل من هشاشة السياسة، وانسحاب المعنى، وإفلاس النخبة، واستغلال المقدّس.

وحين يغيب المشروع، ويُستهلك الأمل، يبحث الإنسان عن الله، لا حبًا في المطلق، بل هربًا من الفراغ. وفي ذلك الفراغ، يولد التنظيم، لا كضرورة دينية، بل كبديل عن وطن لم يُبْنَ.

4- العقل المؤسِّس: حين يخضع الله للتأويل الجماعي

ليست النشأة وحدها ما يحدد مصير المشروع، بل العقل الذي يُعيد تأويل النصوص، ويمنحها إطارها المفاهيمي، ويضع المقدّس في خدمة النظام الرمزي للجماعة. في الإسلام السياسي، يتجلى هذا “العقل المؤسّس” بوصفه عقلًا وظيفيًا، لا يسعى إلى معرفة الله، بل إلى تنظيم العلاقة به وفق ما يخدم البنية التنظيمية والهوية الجماعية.

منذ اللحظة الأولى، لا يُطرَح السؤال: “من هو الله؟”، بل “كيف يمكن استخدام صفاته لتبرير موقف؟ ” الله ليس موضوعًا للتأمل، بل مرجع يُستدعى في سياق الصراع، يُقطَّع إلى مفهومات: الحاكمية، العقاب، النصر، التمكين… كل اسم من أسمائه يُعاد تشكيله كأداة في منظومة سياسية.

العقل الذي يصوغ هذا الخطاب لا يخرج من حقل العرفان، بل من منطق التعبئة. فهو لا يسأل عن المقصد، بل يبحث عن التبرير. لا ينطلق من النصوص نحو التجربة، بل من التجربة نحو انتقاء النصوص التي تثبتها.

في هذا السياق، تُستبعد كل عناصر التسامح، والرحمة، والمفارقة الإلهية، لمصلحة نصوص الترهيب والعقاب والمواجهة. فالله الذي يفتح أبواب التوبة، يُقصى لمصلحة الله الذي “يُمهل ولا يُهمل”، والقرآن الذي يبدأ بـ”الرحمن الرحيم” يُتجاهل لمصلحة الآيات التي تتوعد، وتُزلزل، وتدين.

لا لأن النصوص تفتقر إلى الرحمة، بل لأن العقل الأيديولوجي لا يرى فيها ما يخدم صلابته. في مقابل ذلك، كان العقل الإيماني دائمًا عقلًا قلقًا، متسائلًا، يضع نفسه موضع المحاسبة، ولا يدّعي امتلاك نيات الله. أما هنا، فيُختزل الله في دور تنفيذي: يراقب، يعاقب، ينصر، ويُصنّف العباد بحسب علاقتهم بالتنظيم.

العقل المؤسّس في الإسلام السياسي عقل لا يقبل التأويل المفتوح، بل يبني تأويلًا مغلقًا يشتق المعنى من الضرورة التنظيمية، لا من الانفتاح على الاحتمال. هو عقل يُراكم أدلة، لكنه لا يُنتج أسئلة. يستعرض نصوصًا، لكنه لا ينفتح على التجربة. يُعلن الطاعة، لكنه لا يعترف بالشك، ولا بالخسارة، ولا بإمكان الخطأ.

والمفارقة أن هذا العقل، حين يحشد الأدلة، لا يُقنع، بل يُخيف. وحين يتحدث عن الله، لا يدعو إلى الإيمان، بل إلى الاصطفاف.

وفي هذا السياق، تُلغى حرية الاعتقاد بوصفها خطرًا على بنية الجماعة. فالفرد الذي يختار إيمانه بحرية، لا يمكن ضبطه ضمن تراتبية التنظيم، ولا ضمان ولائه لمن يتحدث باسم الله. أما فردانية الإيمان، بوصفها تجربة داخلية، تأملية، حرة وغير قابلة للقياس، فهي تُقصى لأنها لا تُترجم إلى سلوك قابل للتنميط أو للاستدعاء السياسي. لا يمكن استخدام إيمان الفرد الذي يصمت، ويصلي، ويتأمل، ويشكّ. بل المطلوب هو إيمان جماعي صاخب، مرصوص، ومُراقَب.

وهكذا، تُستبدل العلاقة الحرة مع الإله بعلاقة وظيفية مع المؤسسة. فالإسلام السياسي لا يكتفي بإنتاج خطاب، بل يسعى إلى إعادة تشكيل الذات المؤمنة على مقاس الحاجة السياسية: أن تؤمن كما يريد، وأن تفهم الله كما يُملى عليك، وأن تُجسّد إيمانك في انضباطك لا في حريتك.

وحين يصبح الله دليلًا في مرافعة سياسية، لا يعود موضوعًا للإيمان، بل دليلًا على إغلاق العقل، وإنكار الذات، وخوف الجماعة من فرد لا يخضع إلا لصوته الداخلي.

5- الدولة والدين: الميثاق المستحيل

ليست الدولة مجرّد جهاز إداري، وليس الدين مجموعة طقوس. كلاهما نظام رمزي، يحمل تصورًا عن الإنسان، والمجتمع، والسلطة، والمعنى. وعندما يدّعي أحدهما احتكار الآخر، تولد مفارقة تُهدد الاثنين معًا.

في خطاب الإسلام السياسي، لا يُطرَح السؤال: ما نوع الدولة التي نريد؟ بل: ما هي الدولة التي يُفترض أن يفرضها الله؟

هنا لا يكون العقد الاجتماعي نتيجة تفاهم بشري، بل امتداد للنصوص.

الدولة لا تُبنى بالتفاوض، بل بالتأويل.

والقانون لا يُصاغ كمصلحة عامة، بل يُستخرج من “الشريعة “كما تراها الجماعة.

بهذا المعنى، لا يعود الدين مرجعية أخلاقية تُهذّب السياسة، بل يصبح مادة تأسيس للدولة ذاتها.
لا دولة مدنية بقيم دينية، ولا حتى دينية بمنطق دنيوي، بل دولة نُسجت من النصوص، وأُقيمت على رماد الفقه، واستُعير لها الإله كضامن وشرطي.

لكنّ الفكرة تصطدم بجدار المفارقة:

فالدولة الحديثة، في جوهرها، عقد بين بشر، متساوين، يتفاوضون على السلطة، ويحتكمون إلى ما يمكن تغييره.

أما خطاب الإسلام السياسي، فيقوم على نقيض ذلك: سلطة مفوّضة من الغيب، لا تُراجع، ولا تَحتمل التعدد، ولا تقبل النسبية.

ما ينتج من ذلك ليس دولة، بل نظام طاعة، لا عقد مواطنة.

في هذا السياق، يتحوّل الله من غاية أخلاقية روحية إلى مصدر للشرعية السياسية، ويتحوّل الحاكم من موظف عمومي، إلى “ظلّ الله في الأرض”، وتتحول المعارضة إلى ردّة، والنقد إلى فتنة، والاختلاف إلى خيانة للعقيدة.

يجري خلط الدولة كمنظومة بشرية متغيرة، بالدين كتصور مطلق، ويُبنى على ذلك خيال يوتوبي، يرى أن خلاص الأمة لا يتم عبر النهوض بالمجتمع، بل بإقامة “الدولة الإسلامية”، التي يُفترض أنها ستحلّ جميع الأزمات، لمجرد أنها تُنسب إلى الله.

لكن هذه الدولة لم تُرَ يومًا إلا في الحلم أو في الرعب، فهي إما نموذج مُتخيّل يُستعاد من سيرة مثالية، وإما كابوس سلطوي يمارس العنف باسم الله، ويقمع باسم الشريعة، ويُقصي باسم التوحيد.

وما يسقط هنا ليس فقط مفهوم الدولة الحديثة، بل فكرة الدولة نفسها بوصفها فضاءً جامعًا، ينتمي إليه الجميع لا لأنهم متشابهون، بل لأنهم متساوون في الحق.

فالدولة المؤسَّسة على تأويل ديني وحيد، لا تعترف بالمواطنة، بل بالتصنيف، ترى الفرد لا بصفته شريكًا في الحكم، بل تابعًا في الطاعة. أما المختلف – دينيًا، فكريًا، طائفيًا، جنسيًا – فليس مجرد آخر، بل نقصٌ في التكوين، أو تهديد لهوية الجماعة.

هكذا، تتحول الدولة إلى أداة استعباد ثقافي، لا إدارة تنوع. وتتحوّل الشريعة من أفق أخلاقي، إلى أداة فرز واستبعاد. وكل من لا يشبه الجماعة يُقصى باسم “الثوابت”، أو يُعاد تشكيله قسرًا ليكون جزءًا من “الجماعة الناجية”.

وحين تتكلم الدولة باسم الله، تصمت الحرية باسم الطاعة، وتُمحى المواطنة باسم الهوية، ويتحوّل الإنسان من شريك في المصير، إلى تابعٍ في منظومة لا ترى فيه إلا انعكاسًا لصورتها.

6- من العقيدة إلى المعسكر: حين يصبح الإيمان سلاحًا

حين يغادر الإيمان مجاله الوجودي ليُزرَع في قلب الجماعة، لا يعود حالة تأمل، بل يصير علامة على الانتماء.

في هذا التحول، تفقد العقيدة طابعها الحر، لتُعاد صياغتها كعقيدة قتالية، تُستدعى لا لتمنح المعنى، بل لتشرعن المواجهة.

الإيمان الذي كان يُولد من صمت القلب، بات يُقاس بمستوى الانضباط، وبالاستعداد للتضحية، لا من أجل الله، بل من أجل الجماعة التي تدّعي تمثيله.

يتحوّل النص الديني إلى نص تعبوي. تُنتقى منه الآيات التي تُعزز الانقسام: القتال، الولاء، النصر، الفرقة الناجية. وتُهمّش جميع آيات التأمل، والرحمة، والسعة، والجدال بالتي هي أحسن.

ما يُبنى هنا ليس فهمًا للدين، بل بنية صلبة للإقصاء. فلا يعود الإيمان فعلًا حرًا، بل هوية حزبية مغلقة، لا تحتمل التفاوت، ولا تعترف بالتمايز. يُعاد تعريفه كشرط عضوية: من لم يُبايع، لم يؤمن. من لم ينخرط، لم يُخلِص. من لم يعادِ، لم يصطفّ.

وحين تنتقل الجماعة من مرحلة الدعوة إلى “مرحلة التمكين”، يبدأ تشكل المعسكر:

لا معسكر بالمعنى الجغرافي فقط، بل بالمعنى الوجودي، حيث تُصنّف الحياة إلى معسكرات متقابلة: مؤمن وكافر، معنا وضدنا، نقي ومنحرف، مستقيم ومرتد.

يتحول “المجاهد” من حامل لقضية إلى حامل للفرز، و”الجماعة” من أفق إصلاحي إلى مؤسسة خلاص، و”السمع والطاعة” من فضيلة أخلاقية إلى بنية طاعة مطلقة تُعلّق الضمير الفردي لمصلحة القرار الجماعي.

لكن هذا النوع من الإيمان الجماعي لا يثبت على مبدأ، بل يتلوّن وفق الحاجة.

ففي لحظة واحدة، قد تتحوّل الجماعة إلى محكمة تفتيش داخل الدين ذاته. تقصي “المسلمين التائهين”، وتستثني “العوام”، وتُخرِج من الدائرة كل من لم يعلن الولاء، حتى وإن نطق الشهادتين.

وفي المقابل، قد تُعيد تعريف “العدو” تكتيكيًا. فمن كان كافرًا بالأمس قد يُعاد تأطيره كـ”شريك استراتيجي” إذا لم تعد الجماعة قادرة على استعدائه، أو إن اقتضت المصلحة التحالف معه ضد خصم أقرب.

فالعقيدة هنا لا تُنتِج تصورًا أخلاقيًا، بل معادلات سياسية متغيرة تُلبَس لبوسًا إلهيًا.

في هذا السياق، تُختزل الطهارة إلى أداء، واليقين إلى استعراض، والنية إلى تعبئة.
لا يُسأل الفرد: “ماذا تؤمن؟”، بل: “لمن تُطيع؟”، ولا يقوَّم من خلال أسئلته، بل من خلال انصهاره الكامل في العقيدة التي تُملى عليه.

والمفارقة أن الجماعة، التي تزعم تحرير الإنسان من هيمنة الأنظمة الوضعية، تُعيد إنتاج السلطة ذاتها، بل بلون أشد صرامة، لأنها لا تطلب الطاعة فحسب، بل تقدّمها كدليل على الإيمان ذاته.

وحين يُعاد تعريف الإيمان كولاء، يتحوّل الدين من سؤال داخلي إلى جهاز مراقبة، وتُصبح العقيدة بوابة للعبور إلى الجماعة، لا إلى الله.

7- المنبر المسلّح: حين يعتلي الخطيب هيئة المقاتل

لم يكن المنبر يومًا مجرد منصة خشبية. كان دائمًا مساحة رمزية بين المتكلم والمستمع، بين النص وتأويله، بين السلطة والناس. لكن المنبر في خطاب الإسلام السياسي لم يعد يُستخدم للتذكير، بل للتجنيد.

ولم يعد خطاب الوعظ هدفه الرِقّة، بل التعبئة. فالخطيب في هذا السياق لا يوجّه القلب، بل يحشد الجماعة.

المنبر يتحوّل من مقام رحمة إلى منصة للفرز:

من معنا؟ من ضدنا؟ من لا يتكلم بلغتنا، فصمته خيانة.

هكذا، تصبح الخطبة بيانًا سياسيًا.

ويتحول الخطيب إلى قائد ميداني، يوزّع الولاءات، ويعلن البراءات، ويتلو أسماء الأعداء.

البلاغة الدينية لم تعد لغة دعوة، بل سلاح رمزي.

تُستخدم المفردات ذاتها: النور، الظلمات، الشرك، الجهاد، التمكين، لكن بوقع تعبوي لا أخلاقي.

يُستدعى التاريخ لا للتأمل، بل للمحاكاة، ويُقتطع النص من سياقه ليتحول إلى أداة إدانة، والمنبر يصبح تدريبًا لغويًا على الحرب.

لم يعد المسجد مكانًا للخشوع، بل مركز للقرار الجماعي.

في خطب الجمعة، لا يُعلَن فقط “الحق”، بل يُرسَم موقف الجماعة. ويُصبح حضور الصلاة طقسًا سياسيًا أكثر من كونه عبادة؛ من حضر، أُثبت؛ ومن غاب، سقط من السردية.

بهذا المعنى، يُعاد تشكيل المسجد بوصفه أداة مراقبة أفقية:

الجماعة تراقب الفرد، والفرد يراقب ولاءه، والخطيب يرصد صمت الحاضرين.

وذلك كله يتم باسم الدين، ولكن بآليات السلطة.

لكن الخطر لا يتوقف عند هندسة الخطاب، بل يمتد إلى هندسة المكان ذاته.

فحين يستولي الإسلام السياسي على السلطة، لا يكتفي بالمنبر الديني، بل يُعيد صياغة الفضاء العام كله على صورة المسجد.

يُلبّس الدولة ثياب الخشوع، لا لتورّعها، بل لتستّرها.

ويُعاد توزيع الرموز، بحيث تُفرَض مظاهر التديّن لا بوصفها حرية، بل إلزامًا لغويًا ولباسيًا وسلوكيًا.

في المدارس، لا تُعلَّم الفلسفة، بل تُستبدَل بـ”التفكير الإسلامي”.

في الجامعات، يُشترط الانتماء لا التفوق.

وفي الإعلام، تُمحى الأسئلة ويُركّب على الشاشة خطاب توجيهي، يُطمئن الجماعة أنها على صراط مستقيم، ويُذكّرها بأن الخارج ليس إلا مؤامرة، أو ارتدادًا، أو جاهلية حديثة.

حتى الشكل الخارجي تُعاد هندسته:

الزيّ الموحد، الفصل بين الجنسين، الرقابة الأخلاقية، الأناشيد العقائدية، والكل يُدخَل تحت منظومة واحدة: الطاعة باسم الدين، لا باسم القانون.

ويتمدد هذا النمط إلى الجامعات، حيث تُقام الصلوات الجماعية لا بوصفها حرية دينية، بل مؤشرًا على الانضباط العقائدي.

ويُكافأ “حفظة القرآن” في ساحات الأكاديميا، لا كمظهر تقدير للجهد، بل كترميز للفرد النموذجي في الدولة الإسلامية.

بل حتى الفن يُستثمر فتُقام حفلات التكريم في دار الأوبرا لا للموسيقيين أو الشعراء، بل لحفَظة القرآن،
وتُستبدَل رموز الإبداع برموز الحفظ، وكأن الرسالة هي:

“الجميل هو المقدّس، والمقدّس هو ما يُكرَّر لا ما يُخلَق.”

المنبر لم يعد خطبة، بل أسلوب وجود.

يتسرّب من اللغة إلى المنهج، من اللباس إلى الذاكرة، من اللافتة إلى الدرس، ومن الفضاء الفني إلى منصة التلاوة.

وهكذا، يجري إخضاع العقل والجسد والحس معًا، لا باسم الدولة، بل باسم الله.

في حضرة المنبر المؤدلج، لا يُقال للناس: تعالوا إلى الإيمان، بل قفوا في الصف، وكرّروا ما نقول… باسم الله.

8- الجسد المؤدلج: حين يتحوّل الإيمان إلى مشروع استشهاد

لم يعد الجسد في خطاب الإسلام السياسي مجرّد حامل للروح، بل صار مادةً للتوظيف.
لم تعد الغاية من الإيمان تهذيب الذات، بل توجيهها نحو غاية قصوى واحدة: الشهادة.

الشهادة في أصلها موقف إيماني، لحظة تجاوز، تضحية نابعة من وعي حرّ.

لكن حين تتحول إلى سياسة، تفقد معناها الروحي، وتُعاد صياغتها كشرط عضوية، وكأن الحياة لم تعد تستحق أن تُعاش، إلا إن وُهبت للجماعة.

في هذا الخطاب، لا يُعاد تشكيل المعتقد فقط، بل يُعاد تشكيل الجسد نفسه.

يُدرَّب الجسد على الطاعة، يُختبر في الصبر، يُربّى على الجهوزية، ويُحرم من الحميمية، من الشك، من التردد، من الخوف، لأن ذلك كله علامات نقص في “الإخلاص”.

هكذا، يتحوّل الجسد إلى أداة إثبات:

يُثبت إيمان صاحبه بأن يُقتل، أو يُعتقل، أو يُحرَق، أو يُفجَّر.

ويُصبح الموت مرآة الطهارة، لا الحياة.

كأن الجماعة لا ترى في أتباعها مشروعًا للعيش، بل مواد خام للشهادة.

لكن الجسد هنا لا يُقدَّس، بل يُستهلك.

يُقدَّم مرة بعد مرة، جثة بعد أخرى، كأن له وظيفة واحدة: أن يُفني نفسه ليُثبت النقاء.

في هذا السياق، يُعاد تعريف الإنسان لا ككائن حر، بل كذخيرة رمزية.

يُصبح قابلًا للتضحية من دون تحفظ، لأن الحياة لم تعُد قيمة، بل اختبار.

وهكذا، يسقط جوهر الكرامة.

فبدل أن يُعاش الإيمان كرحلة نحو المعنى، يُختصر في فعل واحد: الموت.

وتُختزل الرفاهية، والكرامة، والحق في الاختلاف، والحق في الشك، والحق في الحياة، كلها، في مقابل قيمة وحيدة مفروضة: أن تموت طاهرًا.

تُحوَّل الطهارة إلى موت، وتُحوَّل الحياة إلى ارتياب.

ويُشيطن كل من يتحدث عن التعايش، أو الحقوق، أو الإنسان، بوصفه مائعًا، ليبراليًا، مرتدًا، متخاذلًا.

يُشيَّد خطاب يتغذّى على المجازر، ويتكاثر بالمآسي، ويزدهر كلما سقط جسد جديد.

لا لأن الدم يُحرّك الضمير، بل لأنه يُغذّي الرواية.

وفي هذه الثقافة، لا تُروى القصص عن الذين بقوا، بل عن الذين ماتوا.

الأيقونات ليست مفكرين، بل “شهداء”.

والبطولة ليست فيمن بنى، بل فيمن “استشهد”، ولو لم يفعل شيئًا إلا أنه سقط.

تُقدَّس المجازر، لا لأنها مآسٍ، بل لأنها أدوات تأريخ.

كل جثة تُضاف إلى سردية الجماعة كبرهان على شرعيتها، ويُعاد إنتاج التاريخ لا كذاكرة، بل كمنصة رثاء:
حيث لا يُكتب “من نحن”، بل “كيف نزفّ موتانا”.

وتحت هذا المنطق، يُعاد تعريف الخلود:

ليس كحكمة تُكتَسب، بل كدم يُراق.

ويُعاد تعريف العدو: ليس من يُحاربك، بل من يرفض أن يموت معك.

في لحظة ما، لا تعود التضحية فعلًا اختياريًا، بل واجب حزبي.

فالمجاهد الحق هو من “ينذر نفسه”، والمحبّ هو من “يتمنى الشهادة”، والمخلص هو من يتوق للموت أكثر مما يسعى للحياة.

يُعاد إنتاج خطاب داخلي يقول:

إذا لم تُقتَل، فأنت أقل طهارة.

إذا بكيت على الحياة، فأنت أقل يقينًا.

إذا ترددت، فأنت لست منّا.

إنه ليس دينًا يحتفي بالاستشهاد، بل مشروع سلطة تُقيس الإيمان بمدى قابلية الجسد للفناء.

جميع طقوسها، وجميع خطاباتها، وجميع رموزها، تدفع نحو نهاية واحدة:

ليس أن تعيش لأجل الله، بل أن تموت باسم الجماعة.

لكن لا يكتمل هذا البناء من دون الوعد الأعظم: الحياة الأبدية.

فحين تُصبح الجنة هي المكافأة الحصرية لمن يموت “بالطريقة الصحيحة”، تُختزل الدنيا إلى ممر، وتُعاد هندسة القيم كلها:

الكرامة لا قيمة لها، ما دامت مؤجلة.

الحرية لا وزن لها، ما دامت ليست في الفردوس.

والرغبة في حياة عادلة تُفسَّر على أنها تعلق بالدنيا، و”الدنيا” في هذا الخطاب ليست مكان عيش، بل فخّ إلهي لا ينجو منه إلا من يحتقره.

يُعاد تعريف العالم الحديث بأنه فتنة، لا خبرة بشرية.

والمجتمعات التي تهتم برفاه الإنسان، تُقدَّم كمنحرفة، لأنها تُراكم الحياة بدلًا من أن تتخلى عنها.

ويُزرَع في الوعي أن “هم ضلّوا الطريق”، لأنهم أحبّوا الحياة أكثر مما استعدّوا للموت.

هكذا تُلغى المقارنة أصلًا:

لا يُقارن المؤمن مع من يعيش أفضل، بل مع من يموت أطهر.

وتُختزل الجنة إلى تعويض، لا إلى انكشاف روحي، ويُستبدل السعي إلى المعنى بالسعي إلى المكافأة.

وحين يُستخدم الخلود لتحقير الحياة، لا يُبشَّر بالله، بل يُهدى الإنسان إلى قبره … باسم الفردوس.

9- التنظيم بوصفه دولة: حين يصبح الدين جهازًا أمنيًا

لم تُولد التنظيمات الإسلامية كسلطات دينية فقط، بل كأنظمة ظلّ.

منذ لحظة التأسيس، كانت الجماعة تبحث عما هو أكثر من الدعوة:

نظام داخلي، بيعة، قيادة، تدرّج، طاعة، أسرار، كأنها تنشئ دولة داخل الدولة، وسلطة لا تعترف إلا بشرعيتها الخاصة.

ما بدأ كجماعة وعظ، سرعان ما تحوّل إلى هيكل أمني.

فالإيمان لا يُقاس بالفهم، بل بالطاعة.

والولاء لا يُختبر في الموقف، بل في مدى القرب من “القيادة”.

وكل من خرج عن السطر، خرج عن الدين، أو عن البيعة، أو عن الجماعة، وكلها تعني: خرج من الحظيرة.

وهكذا، يتحوّل الدين إلى جهاز: يراقب، يصنّف، يطرد، يُكافئ، يعزل، ويُعيد الهيكلة باسم “الشرع”،
لكنها ليست شريعة الله، بل شريعة التنظيم.

في قلب هذا البناء، لا تُستخدم مفهومات الدولة الحديثة، بل تُستبدل بمفردات تبدو مألوفة، لكنها تؤدي وظيفة نقيضة:

– تُطرح “الشورى” بدل الديمقراطية، لا كآلية تداول، بل كاستشارة رمزية تُكرّس سلطة القيادة.

– تُرفع “الطهارة” بدل النزاهة، لا كسلوك قانوني، بل كامتثال شكلي للرموز.

– تُستعمل “النية “بدل التخطيط، لا لأن النية كافية، بل لأنها تُعفي من النقد والمساءلة.

– وتُستدعى “المشيئة الإلهية” بدل العلم، لا بوصفها إيمانًا، بل كتبرير دائم للإخفاقات.

وإذا كان القانون المدني يُبنى على المساءلة والمؤسسات، فإن “البيعة” تُؤسَّس على الطاعة المطلقة، وتُجدَّد كطقس انتماء، لا كعقد سياسي.

من يُبايع لا يعبّر عن رأيه، بل يُسلِّم روحه، ويُحوَّل من فرد حرّ إلى جندي دائم في جيش دائم.

وتُصبح الجماعة بديلًا من الوطن.

لا تعود الهوية متجذرة في أرض أو ثقافة أو تجربة، بل في “التنظيم”.

فمن لا ينتمي للجماعة، حتى لو شاركك الدين، هو خارجٌ عن الحق.

الهوية هنا ضيقة، مُغلقة، تُحددها البيعة، لا الحرية.

في هذه البيئة، لا يُنظر إلى الإنسان بوصفه كائنًا له ضمير، بل كخطر محتمل يجب ضبطه.

لا مجال للثقة، بل للرقابة.

لا مكان للشفافية، بل للسرية.

لا يُحتفى بالاختلاف، بل يُرصد، ويُؤوَّل كعلامة انشقاق، أو ضعف إيمان، أو ميل للحداثة الفاسدة.

يُعاد إنتاج العقلية الأمنية بلباس شرعي.

المحاسبة الداخلية أشبه بالتحقيق، الانشقاق يُفسَّر كخيانة، الأسئلة تُجرَّم بوصفها شبهات،
وكل من لا يتماشى مع الخط هو “مفتون”، أو “مأجور”، أو “عميل”.

وفي هذا المناخ، لا يصبح المتهم بريئًا حتى تثبت إدانته، بل مدان حتى ولو ثبتت براءته.

فالتهمة تُكفّر، والدفاع يُتَّهم، والقضاء مُسبق.

لأن من يلبس عباءة الله لا ينتظر البراهين، بل يُصدر الأحكام بوصفه ناطقًا بالمقدّس.

وهكذا، تتداخل الأدوار:

المدعي هو التنظيم، المحامي لا يجرؤ على الدفاع الكامل، والقاضي هو القيادة، والمعيار الوحيد ليس الأدلة، بل مقدار الضرر الرمزي الذي يُشكّله المتهم على الجماعة.

العدالة تُختصر في الولاء.

والتوبة تُغني عن المحاكمة.

والصمت يُعدّ إدانة، لأن التنظيم، حين يحتكر الحديث باسم الله، يحتكر أيضًا تعريف الجريمة والعقوبة.

المفارقة أن الجماعة التي تهاجم الدولة الشمولية، لا تعارض استبدادها، بل تنافسها على احتكار الأجساد والعقول.

فهي لا تحلم بإسقاط الدولة، بل بحلول مكانها، لا تُزعجها آليات السيطرة، بل فقط أنها لا تُمارَس باسم الله.

يُستبدل القانون بالشريعة، لكنها شريعة بلا قضاء مستقل، ولا تشريع مفتوح، ولا مساءلة علنية،
بل نظام تأديبي موازٍ، يُدير الأفراد كما تُدار الملفات الأمنية:

كل فرد تحت الرصد، كل تصرّف له محمول عقدي، وكل اختلاف هو فتنة يجب وأدها قبل أن تكبر.

وتُعاد صياغة الروابط بين الأفراد: لا صداقة، بل “أخوّة تنظيمية”.

لا مواطنة، بل “ولاء عقائدي”.

ولا حرية رأي، بل “سمع وطاعة في المنشط والمكره”.

حين تُختزل الجماعة في الدولة، وتُختزل الدولة في القيادة، وتُختزل القيادة في الله، لا يبقى الإنسان إلا هدفًا للمراقبة، لا موضوعًا للرحمة.

10- الجماهير المؤمنة: حين يُختزل الإيمان في الاصطفاف

لم يعد المطلوب أن تؤمن، بل أن تُظهِر إيمانك كما يريد التنظيم.

أن تردّد، أن تهتف، أن تتماهى مع الجموع، أن تصطفّ.

في منطق الإسلام السياسي، لا مكان للفرد كضمير مستقل.

يجب أن تذوب في الجماعة، لا بوصفك كائنًا روحيًا، بل كعنصر في كتلة تعبئة.

يُعاد تعريف الإيمان ليصبح موقفًا سياسيًا.

ويُعاد تشكيل المشاعر لتخدم غاية تنظيمية.

كل خشوع يجب أن يكون معلنًا

وكل ولاء يجب أن يُرى ويُسمع ويُكرَّر.

وهكذا، يُنتج التنظيم جمهورًا لا مجتمعًا.

الجمهور يُحرَّك، يُهتَف به، يُوجَّه، يُستنهَض، لا يَسأل، لا يُناقش، لا يتردّد، بل يهتف.

يُقدَّم الدين كعرض جماهيري:

أناشيد، لافتات، حفلات دينية، مظاهرات تعبّدية، وتُستعار جميع أدوات المسرح الجماهيري:
الإيقاع، الحشود، التكرار، الحفز الجماعي.

ولأن الإيمان لا يكفي، يجب أن يكون مرئيًا.

من لا يهتف، مشكوك في ولائه.

من لا يحضر، متخاذل.

من لا يشارك، مُريب.

وحين يُختزل الإيمان في الحضور، يصبح الغياب كفرًا ضمنيًا.

في هذا الجو، تُستبدل النية بالاستعراض، وتُقاس التقوى بشدة الصوت، لا بعمق الوعي.
والجماهير التي تملأ الساحات، لا تعبّر عن التعدد، بل تُؤدّي الوحدة المصطنعة.

لكن الاصطفاف لا يكتمل من دون عدو.

فلا جمهور بلا خصم، ولا تعبئة بلا تهديد.

يُعاد اختراع “الآخر” كل مرة، يُقدَّم ككافر، أو مرتد، أو علماني، أو غربي، أو شيطان ثقافي.

والعدو ليس شخصًا، بل ضرورة.

وجوده يُبرر الاستنفار، ويُغذّي خطاب القلق، ويمنح الجماعة شعورًا دائمًا بأنها في خطر، وأنها وحدها الخلاص.

لكن الجماهير، في عرف هذه التنظيمات، لا تُفهم بالمعنى المجتمعي.

الجمهور ليس شرطًا أن يكون من أبناء الأرض، أو من داخل النسيج المحلي.

بل قد يكون الوافد، الغريب، المحمَّل بأيديولوجيا التكفير، هو الجمهور الأمثل لأنه الأكثر طاعة، والأشد اندفاعًا، والأقل تردّدًا.

ولهذا، لا تتردد بعض التنظيمات في استيراد جمهورها المقاتل، ولو على حساب الواقع والتاريخ والجغرافيا.
المقاتل الأجنبي، في هذه المعادلة، يعلو على المواطن المحلي، لأنه لا يحمل تردده، ولا أسئلته، ولا ذاكرته الاجتماعية.

هو جمهور مثالي لأن ولاءه ليس للأرض، بل للفكرة.

ليس للناس، بل للمعسكر.

ولأنه لا يسأل “لمن نحكم؟” بل فقط “متى نحكم؟”.

هكذا تُفهم المواطنة لا بوصفها عقدًا مدنيًا، بل تذكرة عبور للمعركة.

وتُقاس قيمة الفرد لا بحسب انتمائه إلى الجماعة الوطنية، بل بحسب جاهزيته للامتثال والخضوع والموت.

لكن الجمهور المثالي، في عيون التنظيم، لا يعني فقط المطيع والمتحمّس، بل من يحمل الصفات الجينية التي تُرضي النموذج العقائدي.

وهكذا، لا تتردد هذه الأنظمة في التضحية بمكوّنات كاملة من المجتمع، أكان ذلك لأنها رفضت الاصطفاف، أم لأنها تمسّكت بهويتها المستقلة، أم ببساطة لأنها لا تشبه الجماعة لا شكليًا، ولا طقسيًا، ولا عَقَديًا.

ويُعاد تعريف من هو “ابن البلد” على أسس إيمانية مشفّرة، لا مدنية.

فمن لم يخضع للرمز، ولم يهتف للشعار، ولم يدخل في “البيعة العامة”، يُصوَّر كعدو كامن، وكخطر على الجماعة، وكأنه غريب جيني داخل جسد الأمة.

لا تُنتَقد اختلافاته، بل يُسحَق وجوده.

لا يُستوعَب، بل يُعاد تصنيفه كخطر.

وهكذا، تتحوّل الجماعة إلى ماكينة إعادة تعريف للهوية الوطنية، يُمحى من خلالها مَن لا يحمل مواصفات “المؤمن الصالح” لا المواطن الحر.

في هذا السياق، لا يعود الانتماء اختيارًا روحيًا، بل فعلًا تعبويًّا متكررًا.

تُجدَّد البيعة كل يوم في الساحات، ويُحرَس الولاء بعيون الجماعة، ويُكافَأ المطيع بالحضور، ويُعاقَب الشارد بالصمت الجماعي.

وهكذا، لا تُبنى الجماعة على الثقة، بل على الرقابة الرمزية.

كل فرد يراقب الآخر، وكل جماعة تُراقب أفرادها، والخروج عن الصف لا يُعامَل كاختلاف، بل كخيانة إيمانية.

في نهاية الأمر، لا يعود الإيمان علاقة بين الفرد وربه، بل بين الفرد والجمهور.

لا يُقاس بالقرب من الله، بل بالقرب من اللافتة، من الشعار، من الإيقاع الجماعي.

وتذوب الروح في الجماعة، لا لتسمو، بل لتنضبط.

وحين يُختزل الإيمان في الاصطفاف، يُلغى العقل باسم الجماعة، وتُفرغ الروح باسم الانتماء، ويُعاد تعريف الوطن بوصفه ساحة لا تسكنها ذاكرة، بل جمهور يملأ الصفوف… لا القلوب.

11- توريط الله: حين يصبح المقدّس ناطقًا باسم الجماعة

لم يُستدعَ الله في خطاب الإسلام السياسي كملاذ روحي، بل كضمانة سلطوية.

لم يكن منبعًا يُحتكم إليه، بل توقيعًا يُذَيَّل به كل شيء: القرارات، الفتاوى، الشعارات، الأحكام.

كل نصر هو رضاه.

كل هزيمة ابتلاء منه.

كل انسحاب حكمة.

كل اغتيال طاعة.

كل تكفير نيّة حسنة.

وكل صمت دليل تقوى.

في هذا المشهد، لا يظهر الله كمنارة، بل كغطاء.

الحدود ليست بين الإيمان والكفر، بل بين من معنا ومن ضدنا.

والنص لا يُفسَّر، بل يُجنَّد.

وكلما ازدادت الحاجة إلى التبرير، ازداد استدعاء اسم الله… كمن يرفع ورقة مقدّسة لإغلاق كل نقاش.

لكن ما يُرتكب باسم الله، يتجاوز السياسة.

إنه اعتداءٌ على الفكرة نفسها.

الله، المطلق، يُختزل في خطاب مشروط.

الله، الغيب، يُنتَزع إلى الميدان، إلى منصة التصريحات، إلى منشورات الجماعة.

لم يعُد الحديث عن الله، بل بالنيابة عنه.

لا يعود موضوعًا للتعبد، بل متحدّث رسمي باسم التنظيم.

من يمتلك خطابه، يمتلك شرعيته.

ومن يُخالف تأويله، يُعد خارجًا عن “الإجماع” لا الإجماع الإلهي، بل إجماع الجماعة.

بهذا، يُحتكَر الله.

يُحاصَر داخل فهم واحد.

ويُعاد تشكيله في صورة واحدة: إله مقاتل، غاضب، مولع بالحدود والقصاص والبيعة.

الله الذي قال “ورحمتي وسعت كل شيء”، تُمسَخ صورته في الخطاب التعبوي إلى سيفٍ مشرع على رقاب الخلاف، وصوتٍ صاخب في مواجهة كل صمت، وحكمٍ غيابي على ضمير الإنسان.

لكن الأخطر ليس فقط التفسير العنيف، بل التفويض الزائف.

فالجماعة لا تتحدث باسم الله فقط، بل تتصرف كأنها الله.

توزّع المصير، وتُصدر الأحكام، وتمنح الغفران لمن يتوب إلى التنظيم لا إلى الله.

هي لا تُشَرِّع، بل تستعيد “الشرع”، لا تُقرِّر، بل “تنفذ إرادة الله”، ولا تقتل، بل “تقيم الحد”.

هذا الإله المؤدلج، لم يَعُد مرجعًا أخلاقيًا، بل ذريعة سلطوية.

تُرفع رايته لتبرير الفشل.

وتُرفرف فوق المجازر كي لا تُسأل عن الضمير.

وتُعلَّق صورته في قاعات الحكم لا في صدور المؤمنين.

توريط الله لا يقف عند اللغة، بل ينسحب إلى الأخلاق.

ما يُسمّى “فقه التقيّة”، الذي بدأ كوسيلة لحماية المعتقد، تحوّل في يد الإسلام السياسي إلى نظام مزدوج للسلوك.

وجهٌ علني مطمئن، وآخر سرّي صدامي.

كلمات معتدلة في المؤتمرات، ونصوص متشددة في الدورات التربوية.

أُعطي النفاق رخصة شرعية، وسُمي الكذب سياسة، والمراوغة فقه واقع، والازدواج خطابًا دعويًّا.

وهكذا، يُورَّط الله في تغطية النفاق.

يُستَعار اسمه لتبرير الخطاب المزدوج.

ويُحمَّل وزر السياسة حين تفقد صدقها، كأن الصدق ترف لا تطيقه الدعوة.

لكن توريط الله لا يبلغ ذروته إلا حين يُسكب الدم باسمه.

حين يُعلَن الغضب على من “انتقص من نبيه”،

وحين يُستباح الآخر لأنه “سبّ الرب”،

وحين تخرج الجماعة في حشودها وكأنها تُنجز عدالة الله المغتصبة.

في هذه اللحظة، لا يكون السؤال عن الدين،

بل عن الصورة التي يُصاغ بها الله:

أهو عاجز عن الانتقام حتى يحتاج إلى من يسفك لأجله؟

أهو إله غضبٍ معطّل، لا يستعيد كرامته إلا بالذبح؟

أهو رمزٌ مقدّس… أم شارة حرب؟

بهذا التخييل، يُسحَب الله من عليائه إلى ساحة الثأر.

يُختزل في الغضب، ويُحرَّك كراية بين البنادق، ويُستعمل لتفجير الأبرياء، ثم يُعلن“ :نصرةً لله ورسوله”.

لكن الحقيقة أن من يُفجّر باسمه، لا ينصره بل ينتقص منه.

من يسفك الدم لأجله، لا يُدافع عنه بل ينزله إلى مستوى الغريزة.

الله لا يحتاج إلى نصرة.

الله لا يُهدَّد.

الله لا يُهان إلا حين يُجعل واجهة لمذبحة.

في النهاية، لم يكن التوريط مجرد خلل في التأويل، بل اختطاف للمطلق.

الله، الذي لا يُحاط،

جُرّ إلى ضيق السياسة.

الله، الذي يُقصد بالحيرة، حُوِّل إلى إجابة جاهزة في كل منشور حزبي.

بهذا، لم يُمسخ الإله فقط، بل ضُرب الإيمان ذاته.

فحين يُقدَّم الله كطرف، يُلغى التأمل فيه كمطلق.

وحين يُؤدلَج، يُفرَّغ من دلالته.

وحين يُحتكر، يُفقد معناه الوجودي.

لكن التوريط يصل إلى ذروته حين يُساء لله من حيث يُقصَد الدفاع عنه.

ففي اللحظة التي يُبرَّر فيها العنف المطلق على المخالف، تُطرَح ضمنًا فكرةٌ رهيبة:

أن الله، في عدله، لا يكفي.

أن رحمته غير ملائمة.

أن خلقه لم يكن حكيمًا.

وكأن هذا الخطاب لا يكتفي بتصفية البشر، بل يُلمّح أن بعضهم كان خطأً في الخلق نفسه.

يُعاد تصنيفهم كمسوخ إيمانية لا تستحق الحياة، وكأن الله أخطأ في تصميم الكون، وجاءت الجماعة لتصحّح نيّته.

بهذا، لا يُورَّط الله في القتل فقط، بل يُنتَقَص من حكمته.

ويُستدعى لا كمرجع للعدل، بل كإله ناقص يحتاج إلى من “يُعيد فرز خلقه”.

فحين يُورَّط الله في السلطة، يُمسَخ كماله، وتُصادَر حريّة الإيمان به، ويُعاد تشكيله بوصفه ظلًّا للجماعة… لا نورًا للإنسان.

12- حين يُستعاد الله من يد التنظيم

لم تكن هذه الأطروحة هجومًا على الإيمان، بل مساءلةً لما يُصادِر معناه.

ما وُضع تحت المجهر لم يكن الله، بل الجماعة التي نصّبت نفسها لتمثيله، ثم احتكرته، ثم جعلت منه ظلًا أيديولوجيًا لنظام سياسي مغلق.

لقد كشف الإسلام السياسي عن قوته حين فرّغ الله من مطلقه، وحوّله إلى كائن يتكلم باسم فئة، ويغضب كما يغضبون، ويثأر كما يثأرون، ويصمت حين تُرتكب الجرائم باسمه.

بهذا المعنى، لا تُحرّر هذه الأطروحة الدين من السياسة فحسب، بل تسعى لاستعادة الله من خطابه المزيف، لتعيده إلى مكانه الأصلي:

المطلق الذي لا يُحتكر، والرحيم الذي لا يُستعار، والغيب الذي لا يتكلم بل يُصغي،

والفكرة التي لا تحتاج إلى جنود، بل إلى قلوب.

ليس الله هو من تخلّى عن الإنسان.

بل الإنسان هو من كبّله بتأويله، وجنّده لصراعه، ثم نساه.

فالإيمان لا يبدأ حين يُستدعى الله ليحكم… بل حين يُترك الله حرًّا في ضمير الإنسان، ليُضيء لا ليأمر.

كاتب وباحث سوري من مواليد دمشق عام 1972، يهتم بالشأن الإنساني وتحليل العلاقة بين البنية النفسية والفكرية للإنسان. تستند كتاباته إلى تأمل عميق في الذات بوصفها مرآة لصراعات الإنسان مع نفسه والعالم. يؤمن بأن التغيير الحقيقي يبدأ من الداخل، بتحرير الوعي من القيود الفكرية والرمزية.

مشاركة: