حين تغدو الدولة بلا وجه: عن الخطر الهادئ الذي يسبق الانفجار

في لحظاتٍ نادرة من التاريخ، تتوقّف الشعوب ليسأل أفرادها أنفسهم: من نحن الآن؟ ومَن يحكمنا؟ وفي سوريا، بعد عقد من الجراح والحصار والحرب والخذلان، لا يُطرح هذا السؤال من باب الفلسفة بل من باب النجاة.
ليست الكارثة اليوم في الدمار الذي خلّفته الحرب، ولا في الانقسام السياسي، بل في الفراغ الأخلاقي والوجداني الذي تتسبب فيه حكومةٌ لم تعِ بعد أن بقاء الدولة لا يعني بقاء السلطة، وأن الاستمرار لا يُقاس بالعمر، بل بالمعنى.

الثقة المهدورة: إسقاط بطيء لشرعية الدولة
حين يُطالب المواطن السوري، ولا سيما الثائر أو المكلوم أو الناجي، بأن يمنح ثقته من جديد، فإن ما يُطلب منه ليس أقل من المعجزة. وعلى الرغم من ذلك، حاول هذا المواطن أن يُبقي بصيصًا من الأمل. راقب، انتظر، وتابع بصمت خطوات الحكومة الجديدة – أو ما قُدِّم على أنه حكومة مرحلة انتقالية – على أمل أن يرى تغيّرًا ولو بسيطًا في السلوك السياسي.
لكنّ ما وُوجه به كان استخفافًا فاضحًا بالالتزامات التي قطعتها الدولة على نفسها، داخليًا وخارجيًا وعلى رأسها التعهدات أمام الضامن السعودي والدول الكبرى التي قدّمت، على الرغم من كل شيء، فرصة تاريخية لإثبات الجدارة بالمرحلة.
لا يمكن فهم التراجع في مصداقية الحكومة السورية من الداخل فقط، بل من الضروري أيضًا التوقف عند مسألة الالتزامات الدولية، التي تم الإعلان عنها بشكل واضح في أكثر من مناسبة أمام الضامن السعودي والدول العربية الفاعلة في الملف السوري. هذه الالتزامات، التي خُصصت لها لقاءات ومبادرات ومسارات تنسيقية إقليمية، لم تكن شكلية، بل جاءت بمثابة فرصة تاريخية أُعطيت للنظام السياسي السوري لإعادة تموضعه الإقليمي والدولي ضمن رؤية انتقالية مقبولة. ومع ذلك، فإن التعاطي المتباطئ والرمزي مع هذه الالتزامات، أو تحويلها إلى شعارات غير قابلة للتنفيذ، وضع الحكومة في موضع شكٍ أمام شركائها الإقليميين. وهذا التراجع لا يؤثر فقط على العلاقات الدبلوماسية، بل يُفضي إلى اهتزاز صورة الدولة ذاتها، ويُهدد بفقدان آخر ما تبقى من رصيد سياسي يمكن البناء عليه للمرحلة المقبلة.
إلا أن الحكومة تصرّ على تفويت هذه الفرصة، مرةً بعد مرة. وليس الأمر مجرد أخطاء إدارية، بل قرارات غير مدروسة تُشكّك في أهلية هذه السلطة لقيادة شعب مثقل بالتجارب.

ملف العدالة: حين يُهان الضحايا من جديد
من أكثر المؤشرات خطورة في هذا السياق، هو التعامل مع ملف العدالة. ليس فقط إهماله، بل تقديمه بصورة مشوّهة، كأن الجرح السوري قابل للطيّ من دون مساءلة، من دون كشف، ومن دون اعتراف.
أين هم المفقودون؟ أين المعتقلون؟ من يحاسب مَن مارس التعذيب؟ من يعوّض الأمهات اللواتي دفنّ أبناءهن في ذاكرتهن قبل أن يدفنّهم في الأرض؟
محاولة الدولة لتجاوز هذا الملف، أو تهميشه، أو إفراغه من مضمونه، ليست تجاهلاً سياسيًا، بل جريمة أخلاقية قائمة بحد ذاتها. ونتائجها لن تكون صمتًا مطيعًا، بل غضبًا نائمًا يتحين لحظته.

القرارات العشوائية: سياسة بلا بوصلة
في كل مرحلة مفصلية، تُختبر الحكومات بقراراتها. لكن ما يُلاحظ اليوم في سوريا هو سلسلة قرارات مرتجلة، متسرعة، تخلو من التقدير السياسي والاجتماعي لمآلاتها. قرارات اقتصادية من دون رؤية، قوانين تنفيذية بلا دراسة، تعيينات بلا كفاءة، وأحيانًا، إشارات متضاربة تعكس غياب استراتيجية متكاملة لما يُفترض أنه “إصلاح”.
هذه العشوائية لا تضعف الحكومة فحسب، بل تجعلها موضع سخرية وتهكم لدى الشارع، وتمنح المعارضين والناقمين الذخيرة الكاملة لنزع شرعية الدولة أمام الناس.

الحريات الشخصية: التدخل الذي يعيد إنتاج الاستبداد
ما يزيد الطين بلّة، هو إصرار السلطة الحالية على التدخل المنهجي في حياة الناس، تحت مسميات ثقافية أو أخلاقية أو تنظيمية. قوانين تُقيد اللباس، أو تراقب العلاقات، أو تُضيّق الخناق على التعبير الثقافي والفني والاجتماعي، تعكس ذهنية أمنية لا سياسية.
هذا التدخل الصارخ لا يهدد فقط حرية الفرد، بل يزرع الشك العميق في صدق الحكومة حين تتحدث عن “احترام حرية التعبير والانفتاح والتغيير”. كيف يُطلب من المواطن أن يثق بسلطة لا تسمح له أن يكون نفسه في بيته، في جسده، في رأيه، أو في ملابسه؟
من يريد بناء دولة حديثة لا يبدأ بملاحقة الشباب في المقاهي والموسيقيين على المسارح، بل بفتح الأبواب للنقاش، للحرية، للتنفس.

الاستنزاف الأخلاقي: ما قبل العاصفة
حين يُهمَّش صوت الضحايا، وتُسفّه مطالب التغيير، وتُفرض الرقابة على أنفاس الناس، يدخل المجتمع مرحلة الاستنزاف الأخلاقي. لا يعود هناك من يؤمن، لا بالنظام، ولا بالمستقبل، ولا حتى بالوطن نفسه.
هذا الفراغ القيمي لا يُملأ إلا بالغضب. وهو غضب لن يُعبّر عن نفسه بالضرورة عبر احتجاجات، بل قد يظهر في أشكال أكثر خطورة: تفكك اجتماعي، انسلاخ ثقافي، هروب جماعي، أو حتى صعود تطرف جديد يولد من خيبة الأمل لا من الخطاب الديني.

نقطة اللاعودة تقترب
إذا استمر هذا النهج، فستصل البلاد إلى لحظة تصطدم فيها السلطة بواقع لم تعد قادرة على التحكم فيه، لا سياسيًا ولا مجتمعيًا. حينها، لن تنفع لا التحالفات، ولا الاجتماعات، ولا المؤتمرات، لأن الناس ستكون قد أغلقت أبواب الثقة إلى الأبد.
لا تزال الفرصة قائمة، لكنها باتت هشة كزجاجٍ مكسور بالكاد يلمع تحت الضوء. على القيادة السورية – إن كانت جادة فعلًا في بناء دولة لا مجرد إدارة – أن تعيد النظر جذريًا في سلوكها، وتفتح صفحة جديدة تقوم على:
احترام كرامة الضحايا، الاعتراف بالتاريخ، وقف التدخل في الحريات، والتعامل بجدية مع التزاماتها أمام الداخل والخارج؛ وإلا، فإن الدولة لن تسقط فجأة، بل ستتلاشى، ببطء، إلى أن لا يبقى لها وجه تُعرف به، ولا ظلٌ يحتمي به أحد.

كاتب وسياسي سوري

مشاركة: