نشيد القضبان: بويطيقا الصمت والصرخة في أدب السجون السوري

هامشُ الصمتِ وسط صدى القضبان

في العتمة الكثيفة التي لا يبدّدها ضوء، ينبثق كتاب أدب السجون السوري بويطيقا حقوق الإنسان لريبيكا شريعة طالقاني كما لو كان نافذةً في جدارٍ بلا نوافذ أو صدًى في قبوٍ نسيه الزمن.

إنه ليس كتابًا عن الألم بل عن اللغة حين ترتجفُ تحت وطأة القضبان عن الحكاية حين تصبح الفعل الأخير الذي يُقاوم به الجسدُ العاري تسلّط الدولة.

الترجمة التي أنجزها الدكتور حازم نهّار ليست فعلاً لغويًا محضًا بل هي كمن يمرّر يده على جرحٍ قديم لا ليضمده، بل ليجعله يتكلم.

هناك شيء في نبرة هذا الكتاب، كما مرّ بها حازم نهّار، يشبه ما تتركه الموسيقى في الصمت أثرٌ لا يُفسَّر بل يُعاش.

هذا ليس سردًا عن السجون بل سردٌ داخل السجن من قلبه بما يحمله من انكسارٍ وتأمل من تكرارٍ مرهق للزمن ومن محاولات شرسة لترويضه بالكلمات.

هنا، الكتابة ليست ممارسةً للحرية، بل هي تمارين في استعادتها.

الفصل الأول: حين يتماهى السجين والفيلسوف

في هذا الفصل يُعيد السرد السوري داخل الزنزانة تعريف نفسه كنوعٍ أدبي لا يحتاج إلى اعتراف السلطة بوجوده.
إن كل كلمة تُكتب هناك هي إعلانٌ عن الذات التي رُفعت عنها الحياة، لكنها لا تزال تُصِرُّ على الكلام.

مصطفى خليفة في القوقعة لا يكتب فقط بل يستدعي جسده المسحوق ليكون شاهداً ضد آلة النسيان وبين القوقعة وتقارير المنظمات الحقوقية تتبدى فجوةٌ جليدية هناك لغة توثّق وهنا لغة تتلوّى تنزف لتعيش

وفي قراءة نصوص مثل مرثية في زنزانة تتكشّف آليات الأرسطية في أكثر صورها فجاجة الحدث، الكاثارسيس والوحدة، كأنها تُستعاد لتُجرَّد من زينتها الكلاسيكية وتُلقى عاريةً في زنزانةٍ بلا أفق

الفصل الثاني: حين يبكي التاريخ بصوت طفل

في هذا الفصل لا تُروى الحكاية من خارج السجن، بل من داخله حيث تُولد اللغة من رحم الفقد.
في إحدى القصائد التي أوردتها المؤلفة ينبعث النص لا كنوعٍ أدبي بل كفعل وجود، كشهادة حياة خُطفت وما زالت تلوّح من نافذةٍ لا تطل على شيء مقارنة الشعر هنا مع تقارير اللجان الدولية لحقوق الطفل ليست مقارنة بين شكلين بل بين عالمين أحدهما يقيس الألم والآخر يعيشه.

الفصل الثالث: الجسد بين لغة التعذيب ولغة النجاة

التقرير الحقوقي عن سجن صيدنايا يشبه تقرير تشريحٍ لجثةٍ لا تزال تتنفس لغة دقيقة جافة تقيس الألم كما يُقاس الطقس لكن حين ننتقل إلى نصوص القوقعة تبدأ اللغة في الانفجار التقطيع التشظي.

هنا لا سرد بالمعنى التقليدي بل إيقاعٌ لغوي حركة مقاومةٍ ضد البلادة.

كل جملةٍ أشبه بنفَسٍ يُنتزع انتزاعاً في هذا الجسر بين الوثيقة والسرد يولد نوعٌ ثالث من الحضور- حضور الإنسان ككائنٍ يتذكّر كي لا يموت.

الفصل الرابع: المكان حين يصبح شخصًا

هل يمكن للزنزانة أن تُحبّ؟ أن تحقد؟ أن تغضب؟ في بعض السرديات لا يُرسم السجن كجغرافيا فقط بل ككائن يتنفس ويضحك ويضيق، ويتواطأ مع الزمن.

في قصة «خمس دقائق» لهبة الدباغ الوقت ليس ما يُقاس بالساعات، بل بما لا يُقاس أبدًا.

تستدعي طالقاني هنا فرانكو موريتّي ليضع جغرافيا السجن في صلب التجربة السردية

المكان لا خلفية بل محرّك والزمان ليس خطاً بل هاوية.

الفصل الخامس: تدمر – مختبر الألم السوري

القوقعة ليست رواية عن السجن بل عن السجن كأداة فلسفية فيها تتحوّل اللغة إلى هذيانٍ مدروس والسرد إلى قوقعةٍ تبتلع الداخل لتقيه من الخارج.

وفي شهادات أخرى تتضمنها الدراسة يتحول التوثيق إلى سرد متوتّر إلى خليط بين ما جرى وما لا يمكن وصفه كأن كل جملة تحاول النجاة من فم الوحش دون أن تصرخ.

الفصل السادس: المنفى – الكتابة من حافة العالم

المنفى في هذا الكتاب لا يُقدَّم كملاذ بل كامتدادٍ للزنازين – زنزانة بلا جدران

النص هنا يسبح بين الحنين والهزيمة بين السيرة والخيال بين ما فُقد وما لا يزال يُكتب كي لا يُنسى.

الكلمة حين تصبح مقاومة

هذا الكتاب ليس جردًا لتجارب الاعتقال بل تمرينٌ شاق في استعادة الإنسان حين يُصادر جسده وصوته.

البويطيقا الأرسطية تلتقي مع إعلان حقوق الإنسان كما يلتقي العطش بالماء لا ليشرب بل ليُثبت أنه لا يزال يشعر.

أما حازم نهّار فكان ذلك المُترجم الذي لا يترجم فقط بل الذي مرّ في الزنزانة فكرياً ليخرج بما يشبه الحبر المستخلص من العظام ترجمته فعل وفاء وفعل مقاومة وفعل حبّ غير معلن للكلمة حين تصبح سلاحنا الأخير.

وفي النهاية لا يبقى من السجن إلا ما استطاعت الحكاية أن تنقذه من المحو.

 

صحافي مستقل من مواليد دمشق 1975، كتب في قضايا الذاكرة والهوية بلغة توثيقية شغوفة، ونُشرت له مقالات في مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سورية، وجريدة الدستور اللبنانية، والمنتدى العربي للنقد المعاصر، ومنصات ثقافية أخرى.

مشاركة: