الاجتماع السوري: بين التفكك ومساءلة الذات

لم يكن الاستبداد في سوريا مجرّد نظام سياسي قمعي، بل بنية مجتمعية – رمزية أعادت تشكيل الإدراك الجمعي والاجتماع البشري في الجذر والبنية: أعادت تشكيل التاريخ، والطبقة، والجغرافيا، واللغة، فسيطرت على الذاكرة، واحتكرت معنى الانتماء، وأعادت تعريف الممكن والممنوع …. شيئًا فشيئًا، تحوّل الخوف إلى غريزة جماعية، والخضوع إلى أسلوب عيش، تشكّلا في الصمت القسري وتحوّلا إلى شروخ مستبطنة في الوعي واللاوعي والجسد الاجتماعي.

وحين بدأت تشققات هذه البنية العميقة تطفو إلى السطح منذ اللحظات الأولى لانطلاق المسار الثوري، لم تتهاو تدريجياً دعائم النظام السياسي وحدها، بل بدأت البنى المجتمعية بأكملها بالاهتزاز، متأثرةً بما راكمته من منظومات سيطرة واختلالات في المعاني والروابط الاجتماعية. غير أن البنى الاستبدادية بالسرعة ذاتها التي تنهار بها أنظمتها، حتى في لحظات التحول العميق، بل تتشقق وتتصدع ببطء، كاشفةً عن شروخ بنيوية متجذرة في نسيج الاجتماع، حيث تصبح الكليّات الزائفة ـ بلغة أدورنو ـ محكومة في لحظتها التاريخية بالانهيار الداخلي.

من هنا، لا يؤدي اختزال فهم الانقسامات السورية بعد 2011 وديسمبر 2024 إلى مجرد موروث للثورة أو الحرب إلّا إلى تهميش البعد البنيوي العميق الكامن وراء هذه الانقسامات. فحين تهتز البنى المجتمعية، يتقلص الأفق الذي يربط الناس ببعضهم بوصفهم جماعة، ويتبدّل الإحساس بالواقع، ويتغير سلوك الأفراد. فالبنية المجتمعية هي المنظومة التي تنظم أنماط الفعل والتفاعل، وتمنح الأفراد معنىً لانتمائهم، وتخلق توقعات مستقرة لِما هو ممكن أو مشروع.

بهذا المعنى، لا تُختزل التحولات الجارية في المجتمع السوري منذ سقوط الأسد في كونها ارتجاجات وقتية أو انعكاسات ظرفية، بل تنكشف بوصفها تحولات بنيوية تمس عمق الاجتماع نفسه، وتعيد تشكيل شروط تشكّله ومعاني انتمائه. إنها لا تفتح فقط على هشاشة الدولة، بل تكشف أيضًا عن تصدّع الروابط الاجتماعية وتفكك أنساق التمثيل. وفي قلب هذا التخلخل، تضيق المسافة بين الفرد والمجتمع والدولة، فيغدو التشظي ليس مجرد عرض، بل منطقًا يعيد إنتاج ذاته بوصفه شرطًا مهيمنًا على الوجود الجمعي.

غير أن تفكك الاجتماع لا يحدث دفعة واحدة، بل يتقدم عبر انحلال تدريجي تخفيه استمرارية الأطر الاجتماعية في شكلها رغم فراغها من المضمون وتآكل تماسكها الداخلي. كان “العالم المعيشي” للسوريين، بلغة هابرماس، خاضعًا لهيمنة بنية سلطوية عطلت إمكانيات التواصل العقلاني والحر، وفرضت على المجال العام صمتًا مشبعًا بالخوف. ومع اندلاع الثورة السورية، بدا أن هذا الصمت بدأ يتفكك، وأن المجتمع يستعيد قدرته على الفعل التواصلي، غير أن عسكرة الصراع وتطييفه وتدويله سرعان ما أعادت فرض السيطرة على الفضاء العام، ولكن بأدوات أكثر عنفًا وتفتيتًا. في تلك اللحظة، لم تنهار المؤسسات فحسب، بل انهارت أيضًا الشروط الرمزية التي تتيح إنتاج إجماع اجتماعي. حلّ منطق القهر والهويات المغلقة محل منطق التفاهم والمواطنة، وبدأ تفكك الاجتماع لا بفعل العنف المادي وحده، بل بفعل الانهيار العميق في إمكان المعنى المشترك.

ومع تصدع البنى الرمزية التي كانت تنتج الإجماع ، لم تعد الهوية معطًى ثقافيًا أو انتماءً “تلقائياً”، بل أصبحت أداة صراع ورأس مال رمزي، يُعاد تشكيله في سياقات الخوف والانقسام. وكما يوضح لاكلو وموف، فإن الهويات السياسية لاتنشأ من جوهر ثابت، بل تتكون عبر عمليات “ربط خطابي”، يلحم بين مطالب متفرقة في وحدة معنوية مؤقتة، سرعان ما تتكشف هشاشتها حتي يغيب المشروع السياسي الجامع. وهذا ماحدث في سوريا، حيث انفجرت الهويات الأولية ـ السنية، العلوية، الدرزية، المسيحية، الكردية، والعربية ـ إلى بؤر استقطاب حاد، وصارت أسئلة الانقسام تمس الكلّي السوري ذاته: من نحن؟ من يملك حق التحدث باسمها؟ ومن تمّ إقصاؤه إلى خارج تخومها الرمزية؟

ترافق هذا التصدع مع إعادة تصنيع الانتماء، حيث صيغت الجماعات ككُتل مغلقة عبر سرديات الضحية والمقاومة والتهميش، فصار الانتماء في ذاته رأس مال مادي ومعنوي، يحدد من يُعترف به ومن يُقصى، حتى صارالإقصاء يُواجَه بالشك والمحو والتخوين. في هذا السياق لم يعد العنف البنيوي مجرد نتيجة، بل ـ كما تحلل ماري كالدوـ محركًا لإعادة تشكيل الاجتماع، حيث تتقاطع الهوية مع المصلحة، وتتماهى الحماية مع الولاء، وتُختزل النجاة في خطاب التمثيل.

وهنا، تستعيد الذات المقهورة ـ بلغة فانون ـ حضورها المُشظّى: ذاتٌ تُعاد وعيها تحت وقع العنف، عبر مرآة الآخر، وداخل شعور ظلمٍ لا يندمل. في سوريا، كما يكشف التوتر العميق بين بعض جماعات مثل السنة والعلويين أو الدروز، لم يعد الآخر مجرد خصماً سياسياً، بل تهديدًا شبه وجودي، تُقرأ هويته كعلامة على خطر مُتخيّل، لا كاختلاف مشروع.

وهكذا، لم تكن الانقسامات في سوريا مجرد تصدعات في مؤسسات الدولة أو بناها التحتية كالاقتصاد والتعليم والقضاء والأسرة، بل امتدت إلى عمق الاجتماع ذاته: إلى اللغة، والعلاقات، والمدينة، والانتماء. تشققت البنية الاجتماعية، تراجعت الثقة، تصلّبت العلاقات الأفقية، و تصاعدت الانتماءات ما دون وطنية وما فوقها، وتحوّل المعنى ذاته ميداناً للنزاع.

وكما تحذر حنة أرندت، لا يبدأ الخراب حين يُمنع الناس من الكلام، بل حين يفقد الكلام أثره. وهذا ما حدث حين فُرغ الفضاء العام السوري من إمكانياته الرمزية، وصارت الجماعات تتجاوز في لغاتها دون أن تتقاطع، معلنة انهيار الشروط الضرورية للتفاهم الاجتماعي. في هذا السياق، لم تعد الحرب عنفاً مادياً فحسب، بل تحولت إلى معركة ضد إمكانية الاجتماع نفسه: ضد اللغة الجامعة، والهوية المشتركة، وأفق الانتماء ذاته.

في غياب أفق وطني جامع، لم تظهر الطائفية كمجرد ميراث ثقيل، بل كأفق سلطوي مفروض يعيد تنظيم الاجتماع على أسس الخوف والانغلاق. لم يكن الانقسام الطائفي في سوريا استمرارًا لتوترات دينية سابقة، بل نتاجًا مركبًا لسياسات السلطة، وارتجاجات الحرب، وتموضعات النجاة، كما لو أن الطائفية خرجت من رحم الفوضى لتغدو منطقًا ناظمًا. وكما كتب مهدي عامل، لا تُفهم الطائفية من خلال تمظهراتها، بل من خلال بنيتها السياسية: إنها تعبير عن إعادة إنتاج السيطرة حين تتفكك ضمانات الاجتماع وتنهار أدوات العدالة.

في هذا السياق، لم تُستخدم الطائفية فقط كأداة تفريق، بل كأداة إعادة بناء سلطوي: أُعيد رسم الجغرافيا الأمنية للفصل لا للوحدة، فُرز الضحايا لا على أساس الفعل بل على أساس النسب، ورفعت رمزية بعض المناطق قسرًا باعتبارها امتدادًا شرعيًا للسلطة، فيما مُحيت مناطق أخرى من الوجود والذاكرة معًا.

لكن الطائفية لا تقتصر على التقطيع المادي للجسد الاجتماعي، بل تمتد لتأسر المعنى ذاته: تصبح اللغة مؤشر انتماء، والصوت علامة هوية، والصمت شبهة. ومع اختزال الذات إلى وعاء لهوية مغلقة، يفقد الإنسان حريته كفاعل، ويغدو وجوده مرهونًا بالخوف لا بالكلمة.

كثيرة هي اللحظات التي لم تكن الطائفية فيها خيارًا واعيًا، بل استجابة قسرية لسياقات تهديد وجودي. فالناس لا يُولدون طائفيين، بل يُدفعون إليها تحت وطأة النجاة، والإقصاء، والخوف من المحو. وكما تكشف تظهر تجارب المرحلة الراهنة من سياقات الانقسام والخوف في المجتمع السوري لاتعاش الطائفية كيقين داخلي، بل كشرخ في الذات: فجوة بين الاسم، والصوت، والانتماء المفروض.

في مثل هذا السياق، يغدو سؤال الاعتراف – كما تصوّره نانسي فريزر – سؤالًا وجوديًا: من يُعترف به كضحية؟ من يُمنح شرعية الألم؟ ومن يُقصى إلى هوامش الصمت؟ الطائفية لا تعمل فقط كأداة قهر، بل كنظام اعتراف انتقائي، يعيد ترسيم خريطة من يستحق أن يُرى، ومن يُختزل إلى طائفة صامتة لا يُؤخذ صوتها على محمل الجد.

غير أن حدود الطائفة لم تُحاصر الجغرافيا السورية؛ إذ امتد منطق الانقسام الرمزي إلى فضاءات المنفى، حيث لم يكن الشتات خلاصًا، بل استمراراً لهشاشة الانتماء بلغة جديدة وموقع مغاير.

تفكيك الطائفية لا يبدأ بالشعارات، بل بتحليل خريطة الخوف اليومية: من يُرى؟ من يُسمع؟ من يُؤخذ على محمل الجد؟ ومن يُختصر إلى طائفة صامتة؟

ولفهم الطائفية بما هي أكثر من مجرد تصنيف اجتماعي أو انتماء هوياتي، ينبغي النظر إليها كبنية للهيمنة يعاد من خلالها إنتاج السيطرة في لحظات الانهيار. الطائفية، وإن استمدّت مفرداتها من المجال الديني، لا تنتمي إليه في جوهرها؛ بل تتجذّر في البنى السلطوية، وتُعاد صياغتها عبر تشابك المصالح السياسية، والتراتبيات الاقتصادية، والعلاقات الاجتماعية. إن التعامل معها بوصفها “مشكلة دينية” هو قلب لمعادلة الصراع، وحجب للأساس المادي الذي يؤسس لعلاقة التسلّط بين نظام مستبد وطبقات مسحوقة.

بهذا المعنى، تتحول الطائفية إلى أداة ايديولوجية لإعادة قولبة الاجتماع، لا لتفسيره، وكما فالهوية ـ حين تُختزل إلى تصنيف ـ تصبح الشكل الأولي للإيديولوجيا: تخفي بدل أن تكشف، وتستبطن منطق السيطرة تحت ستار الاختلاف. مشروع الهوية نفسه يقوم على منطق الاختزال والتعميم، حيث تُعرّف الذات لا بما تفكر به، بل بما تُختَزل إليه. وهنا، كما يحلل ألتوسير، يُستدعى الفرد إلى موقعه الطائفي كفعل خضوع رمزي: لا يُطلب منه التفكير بل الامتثال، ولا من الجماعة النقد بل التماهي. وحده من ينصاع كليًا للتصنيف يبقى؛ أما من يرفض التماهي، فيُقصى كما لو أنه تهديد لبقاء الجماعة نفسها.

كل علاقة تسلّط تحتاج إلى أيديولوجيا تبرّرها، لا من منطلق أخلاقي، بل بوظيفة مادية: لتُعيد إنتاج القهر لا بوصفه قهرًا، بل كحاجة موضوعية وشرط ضروري للاستقرار. وقد وظّف نظام الأسد هذه الوظيفة الأيديولوجية للطائفية منذ بدايته، لا بوصفها عقيدة، بل كأداة اعتراف قسري بسيادة السلطة وشمولها، أداة تُنتج المعنى لا من خلال الإقناع، بل عبر الامتثال.

ولا تنحصر فاعلية الأيديولوجيا الطائفية في حجب حقيقة الصراع، بل تتجلّى أيضًا في إعادة تشكيل الذات الجماعية: إذ تتحوّل الجماعة من فاعل اجتماعي إلى كُتلة متخيّلة مغلقة، يصير الخروج منها تهديدًا وجوديًا يُواجَه بالخوف أو الطرد أو العنف. وهكذا، تُصبح الطائفية لحظة إسقاط كبرى: يُسقَط الاستبداد السياسي في صورة انقسام ديني، ويُعاد ترميز القمع بوصفه حماية، والولاء بوصفه شرطًا للنجاة.

وعند المنعطفات الكبرى من التاريخ، حين تهتز البنى الاجتماعية وتتخلخل روابطها، تتراجع أشكال التضامن المدني لصالح روابط انغلاقية ضيّقة، ويغدو الانكفاء الطائفي شكلًا من أشكال النجاة الوجودية. وحين تُملي السلطة على الأفراد أن يختاروا بين الخضوع والانقراض، لا يعود التشظي انحرافًا، بل ممرًا قسريًا للبقاء، وتتحوّل الجماعة إلى ملاذ للذات المهددة، لا بوصفها مشروعًا للعيش المشترك، بل كدرع رمزي ضد الانكشاف.
في مثل هذا السياق، لا تعود الأيديولوجيا الطائفية مجرّد تبرير لواقع قهري، بل بنية تُنتج الواقع ذاته: تؤطر الإدراك، وتختزل المعنى، وتعيد تشكيل الاجتماع على منطق الغريزة لا العقل، وعلى معادلات الحماية لا المواطنة. وهنا، ينكشف سؤال الاجتماع السوري لا بوصفه معطىً تاريخيًا ناجزًا، بل كمهمة مؤجلة، معلّقة على القدرة على مساءلة أسسه، وتفكيك آليات إغلاقه.

لكن التفكك ليس قدرًا مغلقًا، ولا التشظي نهاية محتومة. ما تكشفه الانقسامات في لحظات الانهيار، ليس فقط عمق الكارثة، بل الحاجة الملحّة إلى استعادة الفعل بوصفه مسؤولية مشتركة. لا تتساوى الأوزان الأخلاقية للتورط، لكن الجميع معنيٌ بما يُنتج اليوم من شروخ، سواء امتلك السلطة أو اختار الصمت، حمل السلاح أو كتب خطابًا. فالسقوط، حين يقع، لا يستثني أحدًا من ركامه.

وحده الفعل السياسي المنظّم، غير المنكفئ على الحسابات الفورية أو الانفعالات الهوياتية، يمكنه أن يؤسس لحقل سياسي جديد، لا يحوّل التحليل إلى عزلة، ولا يحوّل الاختلاف إلى عُقم. بل يربط الفكر بالفعل، ويعيد ترتيب المعنى حول مفهوم الوطن لا كهوية موروثة، بل كمساحة مفتوحة لبناء اجتماعي مشترك.

في مثل هذه اللحظة، كما يذكّرنا أدورنو، يصبح التفكير في زمن الكارثة هو الفعل الأخلاقي الأخير المتاح، لا لأنه ينقذ، بل لأنه يقاوم الاستسلام لحتميات زائفة، ويقاوم أيضاً اختزال الفعل السياسي إلى تمرين نقدي فردي، يوجَّه غالباً نحو جهة واحدة، متغاضياُ عن تعددية البنى التي تنتج الانقسام وتُثبته.

السؤال الحاسم اليوم لا يتعلق بما ضاع، بل بما لم يُبنَ بعد: كيف نعيد تشكيل الاجتماع على أسس لا تستبطن القهر؟ كيف نُعيد كتابة الذاكرة دون استدعاء الثأر أو إدامة موقع الضحية؟ كيف نبني عقدًا اجتماعيًا يتجاوز ثنائية الجلاد والمجلود، ويتحرر من منطق الهويات القاتلة؟

بهذا المعنى، يصبح الواجب ـ بلغة بنيامين ـ ألا نُبرّر الكارثة بأثر رجعي، بل أن نفكّك بنياتها، ألا نهادن النسيان، بل نُنتج معنىً مقاومًا له. وحدها المراجعة الجذرية للذات، والاعتراف الصادق باشتباكنا الجمعي مع شروط العنف، يمكن أن يفتحا أفقًا آخر: أفقًا يتأسس لا على التطهير، بل على العدالة؛ لا على التشابه، بل على الاعتراف بالاختلاف كشرط ضروري للعيش معًا.

فالوطن، في النهاية، ليس تكرارًا لذاتٍ مغلقة، بل أفقٌ تُعاد فيه صياغة الـ “نحن” بما يُنقذها من التحول إلى أداة نفي لـ “الآخر”، ويعيد لها أفق المعنى بعد الفقد.

 دكتوراه في علم الاجتماع من جامعة فرايبورغ في ألمانيا، أستاذة في جامعة كولونيا في ألمانيا. لديها عديد من الكتابات

باللغة الألمانية التي تتناول موضوعات متنوعة مثل الاغتراب من منظور فلسفي، وقضية الفردانية في المجتمعات

العربية، إضافة إلى موضوع السجون السورية، وغيرها من القضايا.

مشاركة: