الفقه الإسلامي بين الواقعية القانونية والنزعة الأيديولوجية

حين نقرأ في الإعلان الدستوري السوري نص المادة الثالثة التي تقول: “الفقه الإسلامي هو المصدر الرئيس للتشريع”. قد يتبادر إلى الذهن أنها مجرد عبارة إنشائية، لا تغيّر من الواقع شيئًا، ولا تؤثر في بنية النظام القانوني القائم منذ عشرات السنين. لكن عند التمحيص، تُخفي هذه العبارة القصيرة في ظاهرها، تحولًا جذريًا في فلسفة التشريع، وهوية الدولة القانونية، ومكانة المرجعية الدينية في القانون السوري.

الفقه الإسلامي ليس مصدرًا واحدًا موحَّدًا، بل هو منظومة فكرية واسعة تضم مذاهب وآراء متعددة، أبرزها: الحنفي، الشافعي، المالكي، الحنبلي، الجعفري، الزيدي، إضافة إلى مدارس اجتهادية ومقاصدية حديثة. ولم يحدد الإعلان الدستوري السوري المعتمد أي مذهب فقهي يُعتَمد كمرجعية، ولا الجهة المخوّلة بالترجيح بين الآراء الفقهية المختلفة، ما يفتح الباب لاجتهادات متضاربة، بل وتناقضات محتملة في التطبيق. ثمة فرق قانوني دقيق وجوهري بين أن نقول: “الفقه الإسلامي هو مصدر رئيسي للتشريع”، أو “الفقه الإسلامي هو المصدر الرئيس للتشريع”. في العبارة الأولى، يُفهم أن الفقه الإسلامي هو أحد أهم مصادر التشريع، لكن يمكن تجاوزه أو تقديم غيره عليه (كالتشريع أو العرف). أما في العبارة الثانية، فإن الفقه الإسلامي يصبح المصدر الأول والمقدَّم على كل ما سواه، ما يُلزم المشرّع بعدم مخالفته في أي قانون جديد. لكن المشكلة لا تقف عند ترتيب المصادر، بل في مدى انسجام هذا النص مع مبادئ القانون المدني الذي يقوم عليه النظام القانوني السوري. فالقانون السوري مستمد من المدرسة الفرنسية، ويقوم على مبادئ المساواة، وحياد الدولة، ووحدة المرجعية القانونية، وهي مبادئ لا يمكن الجمع بينها وبين نظام فقهي ديني متعدد المصادر والاجتهادات.

على الرغم من أن البعض يعتبر هذا النص بلا أثر فعلي، إلا أن موقعه في قمة الهرم الدستوري يمنحه قوة كامنة قابلة للتفعيل في أي لحظة، ولا سيَّما في ظل غياب قضاء دستوري مستقل. ومن هذه التأثيرات المحتملة: رفض أو إلغاء أي قانون يُخالف الفقه الإسلامي، ولو باسم الحريات أو حقوق الإنسان؛ وتقييد تطور القوانين المدنية، خصوصًا في مجالات الأحوال الشخصية، الميراث، الأسرة، والعقوبات؛ بالإضافة إلى استخدام النص كسلاح سياسي لفرض توجهات دينية أو لقمع أصوات معارضة.

إن عدم تحديد المرجعية الفقهية يُعدُّ سلاحًا ذا حدين: من جهة، يُعطي للسلطة حرية انتقائية في توظيف الفقه الإسلامي بحسب مصالحها السياسية؛ ومن جهة أخرى، يُربك القضاء ويُفقد المواطن الثقة بالقانون، إذا ما اختلفت الأحكام من قاضٍ إلى آخر تبعًا لاجتهاداته الفقهية. والأخطر من ذلك، بصفته مرجعية تشريعية، لا يخضع الفقه الإسلامي لمبدأ الشرعية الديمقراطية، فلا يمكن تعديله أو مناقشته شعبيًا، مما يتعارض مع جوهر فكرة القانون الحديث بوصفه تعبيرًا عن الإرادة العامة عبر المؤسسات المنتخبة. وهكذا، فإن هذا النص يُدخل في النظام القانوني عنصرًا فوق دستوري غير خاضع للرقابة أو التطوير.

كثيرون يستهينون بالنص الدستوري، معتبرين أنه “لا يغير شيئًا على الأرض”. لكن هذا الرأي يغفل حقيقة جوهرية: النصوص الدستورية لا يُقاس أثرها باللحظة الراهنة، بل بما تُتيحه من إمكانيات مستقبلية للتغيير أو التحكّم في مسار الدولة. ولأن هذا النص ورد في الإعلان الدستوري، فهو فوق أي قانون أو اجتهاد، ويمكن استخدامه في لحظة سياسية معينة لتبرير انقلاب قانوني شامل على النظام المدني، باسم الدين.

تاريخيًا، لم تكن الشريعة غريبة عن التشريع السوري. فالدستور السوري لعام 1950 نص في مادته الثالثة على أن “الفقه الإسلامي هو المصدر الرئيسي للتشريع”، إلا أن المشرّع لم يتقيّد بذلك النص بشكل صارم، بل استمر في اعتماد تشريعات مدنية مستقاة من القانون الفرنسي. فقانون الأحوال الشخصية لعام 1953 مثلًا، استند أساسًا إلى الفقه الحنفي، لكنه خالفه في مواضع عديدة، كفرض سن قانوني للزواج وتنظيم الحضانة. كما أن قوانين العقوبات، والتجارة، والجمارك، والوظيفة العامة، وغيرها، لم تُبْنَ على قواعد فقهية، بل على أسس وضعية حديثة. وتمثّل هذه المفارقة تناقضًا قانونيًا عميقًا، حيث يُصرح الدستور بإعطاء الأولوية للفقه، بينما تُطبّق المحاكم قوانين مدنية تخالفه في الجوهر. وقد يكون لهذا التناقض بعض الآثار الإيجابية في حفظ الاستقرار القانوني، لكنه يُخفي هشاشة في البنية الدستورية، قد تنفجر في أي لحظة نتيجة تأويل متشدد أو قرار سياسي مفاجئ.

أما على المستوى المقارن، فإن التجربة المصرية تقدّم مثالًا غنيًا. فقد نصّ دستور 1971 ثم دستور 2014 على أن “مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع”. لكن المحكمة الدستورية العليا المصرية فسّرت هذا النص بشكل ضيّق، حيث اعتبرت أن المقصود بـكلمة “المبادئ” هو الأحكام القطعية الثبوت والدلالة، لا الفروع الفقهية الخلافية. أما في السودان، فكانت تجربة أسلمة الدولة أعمق وأشمل، حيث تم تطبيق الحدود الشرعية بشكل صريح في بعض المراحل، لكن ذلك أدى إلى عزلة دولية واضطرابات داخلية انتهت بإلغاء تلك القوانين في مرحلة لاحقة.

وبالنظر إلى الواقع السوري، فإن محاولة تطبيق الفقه الإسلامي كمصدر أوحد للتشريع تصطدم بجملة من التحديات، منها: التنوع الديني والمذهبي في المجتمع السوري، وجود منظومة قانونية مدنية عريقة مستمدة من القانون الفرنسي، والالتزامات الدولية التي تعهدت بها سوريا بموجب اتفاقيات حقوق الإنسان. وهذه التحديات ليست هامشية، بل تمس جوهر الدولة ومؤسساتها، وتطرح سؤالًا جوهريًا: هل يمكن الإبقاء على هذا النص من دون التضحية بوحدة القانون وضمانات الحريات؟!

ولا تقتصر الإشكالات على الجانب النظري، بل نجد في الواقع القضائي السوري تطبيقات واضحة لأولوية النص القانوني المدني على الفقه الإسلامي، حتى في مسائل ترتبط بنصوص دينية تقليدية. ففي قضايا الفائدة على الديون، وعلى الرغم من أن الفقه الإسلامي يعتبرها من الربا المحرَّم، فإن المحاكم السورية تأخذ بالفائدة القانونية المنصوص عليها في المادة 228 من القانون المدني، وتُنفذ العقود التي تتضمن فوائد اتفاقية ضمن الحدود القانونية، دون الالتفات إلى حرمتها الفقهية. وفي قضايا التأمين، وهو من العقود التي اعتبرها كثير من الفقهاء باطلة شرعًا بسبب الغرر والربا، نجد أن المحاكم السورية تقبل دعاوى المطالبة بالتعويضات ضد شركات التأمين، وتُنفذ هذه العقود وفقًا للتشريع الوضعي، وليس بناءً على قواعد الفقه الإسلامي. وفي موضوع المواريث، أظهرت بعض الحالات القضائية المتعلقة بميراث الأجانب أو اتباع الديانات الأخرى أن القضاء يُطبّق قواعد القانون الدولي الخاص أو مبادئ الجنسية، ولو تعارضت مع قواعد الميراث في الفقه الإسلامي، ما يدل على تغليب المرجعية القانونية المدنية في مسائل حساسة ذات طابع ديني.

لا يمكن التوفيق بين نص دستوري يمنح الفقه الإسلامي صفة “المصدر الرئيس للتشريع”، وبين المبادئ العامة التي تحكم النظام القانوني السوري، والتي تقوم على العقلانية، والمساواة، ووحدة المرجعية القانونية. فالقانون، وفق المفهوم الحديث، هو تعبير عن الإرادة العامة ضمن إطار ديمقراطي، ويستمد شرعيته من توافق المجتمع عبر مؤسساته التمثيلية، لا من مرجعيات دينية غير موحدة، ولا خاضعة للرقابة التشريعية أو التطوير. إن الإبقاء على هذا النص بصيغته الحالية يُنتج ثغرة دستورية كامنة، تُعرّض البنية القانونية للدولة لخطر التناقض، وتفتح الباب لتأويلات سياسية أو دينية قد تُقوّض أسس الدولة المدنية.

من هنا، فإن مراجعة هذا النص وتعديله ليصبح “أحد مصادر التشريع” وليس مصدره الوحيد أو الرئيس، لا تمثل مسًّا بالمقدسات، بل تشكل ضرورة تشريعية لضمان اتساق الدستور مع مفاهيم الدولة الحديثة، واحترامًا لتعدد المجتمع السوري والتزاماته القانونية.

كاتب في مجال القانون ــ محام سابق

مشاركة: