يعد الإعلان الدستوري إطارًا قانونيًا ينظم التشريع في البلاد خلال المرحلة الانتقالية، إذ يحدد المبادئ الأساسية التي تستند إليها القوانين، ويضع الأسس الدستورية التي توجه عملية التشريع. ومن خلال مواده، يبين مصادر التشريع مثل الفقه الإسلامي، والاتفاقات الدولية، والعرف، كما يحدد العلاقة بين القوانين الداخلية والالتزامات الدولية. إضافة إلى ذلك، فهو ينظم طبيعة السلطة التشريعية، ويوضح نطاق عملها في سن القوانين، ما يجعله المرجعية الأعلى التي تستند إليها الدولة في تنظيم شؤونها القانونية والتشريعية.
على الرغم من هذه الأهمية، يثير الإعلان الدستوري في سوريا إشكاليات تتعلق بتناقض بعض مواده، ولا سيما في ما يخص حقوق الإنسان وحرية الاعتقاد. يبرز التعارض في نص المادة الثالثة بحد ذاتها، التي تنص على أن الفقه الإسلامي هو المصدر الرئيسي للتشريع، وتعارض آخر بين المادة الثالثة، أيضًا، مع المادة الثانية عشرة، التي تجعل الاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها سوريا جزءا من الدستور. وبينما يلزم الفقه الإسلامي المشرع باتباع قواعد مستمدة من الشريعة، فإن الاتفاقات الدولية تلزم الدولة السورية بتبني معايير عالمية لحقوق الإنسان، ما يخلق تناقضًا قانونيًا في عدة مجالات.
يثير الإعلان الدستوري السوري تساؤلات حول استخدام مصطلح الفقه الإسلامي بدلًا من الشريعة الإسلامية كمصدر رئيسي للتشريع. إذ يعني مصطلح الشريعة الإسلامية النصوص القطعية من القرآن والسنة، بينما يمثل الفقه اجتهادات الفقهاء التي تختلف بين المذاهب، وقد تتغير مع الزمن. الأمر الذي يفتح المجال أمام تفسيرات متعددة قد تؤدي إلى تناقضات في التشريعات، ما يخلق حالة من عدم الاستقرار القانوني والقضائي. من الناحية العملية، لا يوجد تفسير دستوري واضح لهذا التناقض، ما يسمح بمرونة قانونية قد يتم توظيفها سياسيًا أو قضائيًا وفقًا للظروف، من دون الالتزام بالنصوص القطعية فقط، ما يسمح بتفسير بعض الأحكام الشرعية بما يتناسب مع التشريعات الدولية ومتطلبات العصر. غير أن هذه المرونة قد تؤدي إلى تباينات قانونية داخل الدولة الواحدة، حيث قد تعتمد المحاكم تفسيرات فقهية مختلفة بناء على مواقفها الأيديولوجية أو السياسية.
وفي حين ذهب الإعلان إلى اعتبار الفقه المصدر الرئيسي للتشريع، نص في مادته 12 على أن الاتفاقات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان جزء من الدستور. وهنا يبرز تناقض آخر. إذ تعد حرية الاعتقاد من المبادئ الأساسية في حقوق الإنسان، فتنص المادة 18 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، على حق الأفراد في اختيار معتقداتهم بحرية، بما في ذلك تغيير الدين أو عدم اعتناق أي دين. في المقابل، يرى الفقه الإسلامي التقليدي أن الردة عن الإسلام جريمة قد تستوجب العقوبة، حيث يتفق كثير من الفقهاء على أن المرتد يُستتاب، وإذا أصر على موقفه، قد يواجه عقوبات تصل إلى الإعدام. وعلى الرغم من أن القوانين السورية لا تنص صراحة على معاقبة المرتد، إلا أن البيئة القانونية والمجتمعية قد تمارس ضغوطًا على من يغير دينه، ما يجعل سوريا في موقف متناقض مع التزاماتها الدولية. من الناحية العملية، هناك قضايا شهدت تدخلات أمنية أو اجتماعية ضد أفراد غيّروا معتقداتهم، من دون وجود نص قانوني صريح يعاقبهم، ما يؤكد وجود ازدواجية في التعامل مع هذا الملف.
كما تمثل المساواة بين الجنسين أحد أبرز مظاهر التناقض بين المادة الثالثة والمادة الثانية عشرة من الإعلان الدستوري. فعلى الرغم من مصادقة سوريا على اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة “سيداو”، لا تزال التشريعات السورية المستمدة من الفقه الإسلامي تتضمن تمييزًا واضحًا في عدة مجالات. ففي الميراث، يحصل الذكر على ضعف نصيب الأنثى، وهو ما يتعارض مع مبدأ المساواة المنصوص عليه في الاتفاقيات الدولية. وفي الشهادة، تعادل شهادة المرأة نصف شهادة الرجل في بعض القضايا، وفقًا للفقه الإسلامي. أما في الزواج والطلاق، فيملك الرجل وحده حق الطلاق، بينما تحتاج المرأة إلى اللجوء إلى القضاء لطلب الخلع، كما لا يسمح للمرأة المسلمة بالزواج من غير المسلم، في حين يسمح للرجل بذلك. وقد دفع هذا التناقض سوريا إلى تقديم تحفظات على بعض مواد اتفاقية “سيداو”، ما يعكس صعوبة التوفيق بين التزاماتها الإسلامية والدولية. في الواقع، إن المحاكم السورية تستند إلى الفقه الإسلامي في مثل هذه القضايا، على الرغم من المصادقة على الاتفاقية، لكن اليوم، بعد اعتبار الاتفاقية جزءًا من الدستور، فإن نظام الأحوال الشخصية السوري كاملًا، بقوانينه ومحاكمه ومؤسساته لدى جميع الطوائف والمذاهب في سوريا، يصبح متعارضًا مع أحد نصوص الدستور، أي المادة 12، وهنا يبرز تساؤل محق حول المرجعية التشريعية التي يجب على القاضي اتباعها عند النظر في قضايا الأحوال الشخصية المعروضة على محكمته.
إن تحديد الأولوية بين المادة الثالثة والمادة الثانية عشر من الإعلان الدستوري السوري مسألة معقدة تتطلب تفسيرًا قانونيًا واضحًا. فالأخذ بمبدأ “السمو الدستوري” يفترض أن جميع المواد الدستورية متساوية في القوة الإلزامية، ما يعني أن التناقض بين المادة الثالثة والمادة الثانية عشرة يجب حله بتفسير يحقق التوافق بينهما، بدلًا من ترجيح إحداهما على الأخرى. على خلاف ذلك، فإن تطبيق مبدأ “القاعدة الخاصة تقيد القاعدة العامة” يعني اعتبار المادة الثالثة قاعدة خاصة تتعلق بالتشريع الديني، بينما المادة الثانية عشرة قاعدة عامة تتعلق بالالتزامات الدولية، ما قد يؤدي إلى ترجيح تطبيق المادة الثالثة في القوانين الداخلية، والمادة الثانية عشر في التعاملات الخارجية. لكن هذا الاتجاه سيؤدي حتمًا إلى خرق الدولة لالتزاماتها الدولية على المستوى المحلي. بالتالي، فإن حل هذا التعارض يتطلب إما تعديلًا دستوريًا يحدد بوضوح أولوية أحد النصين، أو تفسيرًا قضائيًا يضع إطارًا واضحًا لكيفية التوفيق بينهما.
في مصر، تبنى الدستور نهجًا مختلفًا، حيث نصَّ على أن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، بدلًا من الفقه الإسلامي. وقد أدى هذا إلى تفسير أكثر استقرارًا، حيث أكدت المحكمة الدستورية العليا في مصر أن المشرع ملزم فقط بالأحكام القطعية الثبوت والدلالة من الشريعة، بينما يجوز له الاجتهاد في الأحكام الظنية. سمح هذا النهج بمرونة تشريعية، مكنت مصر من إصدار قوانين تتماشى مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان، مع احترام المبادئ الأساسية للشريعة الإسلامية. في المقابل، نجد أن دولًا مثل تونس والمغرب اعتمدت نهجًا أكثر فصلًا بين القانون المدني والأحكام الدينية، ما سمح لها بتطوير تشريعات أكثر توافقًا مع المعايير الحقوقية العالمية، ولا سيما في قضايا الأحوال الشخصية والمساواة بين الجنسين.
فس الحصيلة، إن الجمع بين الفقه الإسلامي بوصفه المصدر الرئيس للتشريع، وبين الالتزام بالاتفاقيات الدولية في الدستور السوري، يخلق تناقضًا قانونيًا يصعب حله من دون إصلاحات قانونية جوهرية. في المقابل، يظهر النموذج المصري أن تبني الشريعة الإسلامية كمصدر رئيسي يوفر مساحة أوسع للاجتهاد القانوني، ما يمنح المشرع مرونة أكبر. ومن بين الحلول المطروحة أيضًا، فصل القوانين المدنية عن الأحكام الدينية، كما حصل في تونس والمغرب، لضمان توافق القوانين مع المعايير الدولية، مع احترام حرية الاعتقاد للأفراد. أخيرًا، على الرغم من أن عمر الإعلان الدستور لا يتجاوز بضعة أيام، إلا أن سوريا تحتاج إلى مراجعة دستورية عاجلة تضمن استقرار التشريع وتحقيق التوازن بين الشريعة وحقوق الإنسان.