من الثورة الى الدولة

إن الوعي بمتطلبات المرحلة المقبلة في سوريا لا يقتصر على إدراك التحديات فقط، بل يستلزم تبني نهج تفاعلي-جدلي ضمن تعزيز الحوار المجتمعي، وإنتاج خطاب سياسي متزن، وتعزيز ثقافة الحوار والتشارك في العمل السياسي بين الأفراد، إضافة إلى الاستفادة من تجارب الدول التي مرت بظروف مماثلة، وذلك لبناء استراتيجية واقعية قابلة للتنفيذ. وصياغة المفاهيم والأفكار اللازمة للتفاعل معها، يشكلان عاملًا فارقًا وحاسمًا في تحديد المسار الذي ستسلكه البلاد نحو المستقبل. نحن اليوم أمام مفترق طرق، حيث تسود حالة من اللايقين، ولا أحد يستطيع الجزم بشكل الحياة السياسية المقبلة. فهناك مجاهيل عديدة تحتاج إلى تعريف، ورؤية واضحة تُبنى على الوعي العميق بالمتغيرات والتحديات.

الشعب السوري بمعظمه اليوم يريد أن يكون شريكًا فاعلًا في بناء مستقبل بلاده، وهذه الإرادة تشكل علامة فارقة ومهمة. إنها بمثابة عودة الروح إلى المجتمع، بعد عقود من محاولات التهميش وسحب السياسة من المجال العام. ولكن، لا يمكن لهذه الإرادة أن تؤتي ثمارها دون أن تقترن بالفكر والوعي؛ فالرغبة وحدها لا تكفي، بل لا بد من توجيهها ضمن إطار عقلاني قادر على إنتاج حلول واستراتيجيات عملية. وهذا يتطلب فهم السياقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والاستفادة من التجارب السابقة، سواء داخل سوريا أو خارجها، للوصول إلى رؤى ناضجة وقابلة للتطبيق.

وهنا يبرز السؤال الجوهري: إذا أراد أحدنا أن يوجه خطابًا سياسيًا لبناء سوريا المستقبل، فماذا سيقول؟ ما هو المحتوى الذي ينبغي أن يقدمه؟ هل سنكتفي بالشعارات أم نبحث عن وعي حقيقي وفكر يمكن البناء عليه لرسم خارطة طريق واضحة؟ أولى الخطوات في هذا الاتجاه تتمثل في مراجعة المفاهيم المفتاحية التي شكلت أوهامًا قادتنا إلى الخراب. لقد وقعنا في فخ التقديس الأعمى لمفردات، واللعن التلقائي لأخرى، دون فحص محتواها. مصطلحات مثل “ثورة”، “قومية”, “اشتراكية”, “مقاومة” و”حرب” كانت تستدعي التصفيق والامتثال، بينما مفردات كـ”غرب”، “يمين”، “سلام” و”ليبرالية” كانت كفيلة بإثارة اللعنات. لم نخضع هذه المفاهيم للنقد والتحليل، ولم نعمل على تحويلها إلى أدوات تفكير تساعد في البناء. المطلوب اليوم هو استخلاص الدروس من تاريخ طويل من الفشل في بناء الدولة، والتعامل مع الأفكار لا من منظور الولاء الأعمى أو العداء المطلق، بل وفقًا لمعايير المصلحة الوطنية والبناء المستدام.

لقد دفع الشعب السوري ثمنًا باهظًا في سبيل دحر نظام توتاليتاري متوحش، لكن السؤال الأهم هو: هل دفع هذا الثمن من أجل شيء أم من أجل لا شيء؟ هناك أمم كثيرة دفعت أثمانًا باهظة ولم تحصد سوى الخيبة، فهل سنكون من بينها؟ الإجابة تعتمد على قدرة السوريين على بناء دولة الحق والقانون وتجاوز الهذيان الثوري الذي يسعى لتحقيق كل الأهداف دفعة واحدة وبطريقة جذرية منفلتة من عقالها، وعلى استعدادنا لتبني منهج التدرج كطريق آمن وفعال نحو التغيير.

التدرج هو الخيار الأكثر عقلانية وواقعية، على الرغم من أنه يبدو للبعض أطول وأصعب. في المقابل، الطريق القصير نحو التغيير الفوري غالبًا ما يكون أقصر الطرق نحو الفشل والخراب. وللأسف، فكرة التدرج غائبة أو ملغاة في وعينا الجمعي، إذ تسود العجلة والانفعال على التفكير الهادئ والتخطيط المتزن. إن الرغبة الجامحة في التغيير لا ينبغي أن تُنسينا أن التحولات العميقة تحتاج إلى وقت، وأن العالم محكوم بقوانين التاريخ، لا بالأحلام الثورية المتعجلة. فالتقدم لا يتحقق بالانقلابات الجذرية، بل هو سيرورة تراكمية، تربط الممكن بالضروري، وتعتمد على الإصلاح التدريجي كنهج أساسي.

ما يهمنا اليوم ليس الثورة بحد ذاتها، فالثورة ستجد من يكتب عنها ويؤرخ لها، بل بناء الدولة من خلال خطوات عملية واضحة، تشمل وضع دستور يحترم الحريات والحقوق الأساسية، وإرساء سيادة القانون، وتعزيز مؤسسات المجتمع المدني، وبناء نظام تعليمي حديث يساهم في تكوين وعي سياسي ناضج. إضافة إلى ذلك، يجب العمل على إعادة بناء الاقتصاد الوطني بشكل يضمن العدالة الاجتماعية ويحقق التنمية المستدامة، بما يعزز الاستقرار ويضمن مشاركة جميع فئات المجتمع في صنع القرار. سوريا ستكون بخير إذا كان عنوان المرحلة المقبلة هو بناء الدولة، وهذا لن يتحقق إلا بالتدرج والتخطيط والتشارك. ومن دون ذلك تصبح الديمقراطية والحريات كذبة كبرى، وقد تنحط إلى مسخ كاريكاتوري اسمه صندوق الاقتراع، بل منظومة متكاملة من القيم والممارسات التي تُترجم في مؤسسات فاعلة ووعي مجتمعي ناضج. إن هذا العنوان، على الرغم من أهميته، لا يستنفد كل عوامل تعافي سوريا وتقدمها، لكنه يمثل أحد مرتكزاتها الأساسية نحو مستقبل أفضل.

 

مشاركة: