إن “الهلوكست” التاريخي غير المسبوق، الذي فتك بالسوريين، ينبغي له أن يدفعهم إلى طرح حزمة من الأسئلة في مواجهة نكبتهم، ويأتي في رأس هذه الأسئلة الكاشفة: لماذا سمح “المجتمع” السوري، أو المجتمعات السورية، لتجربة البعث بأن تولد وتتكوّن، وتفصح عن كل هذا القبح والانحطاط والسقوط الأخلاقي والإنساني؟ هذه التجربة التي أعادت سوريا إلى مرحلة ما قبل الإنسان العاقل، وشكّلت تدميرًا عظيمًا للبشر وللعمران، فضلًا عن تدمير الثقافة والسياسة والسوسيولوجيا، والاجهاض، نظريًا وواقعيًا، على أفكار الدولة والوطن والمواطنة والدستور والقانون، لصالح إنتاج التسلط المتوحش بمعاييره ومستوياته كافة.
لقد كان طارق أبو الحسن من أوائل القادة البعثيين الذين أدركوا خطورة المقدمات التي بدأت السلطات الانقلابية بوضعها في الثقافة والسياسة والاقتصاد لإنتاج التسلط والاستبداد والرثاثة الاجتماعية في مستقبل سوريا، ففي عُقب توليه موقع عضو قيادة قطرية في حزب البعث عام 1963، قرر مع عدد من رفاقه الانشقاق عن حزب البعث، وذلك بعد أقل من ثلاث سنوات من انقلاب 8 آذار/ مارس 1963، وفعلًا تم ذلك في المؤتمر القومي السادس، الذي عقد في عام 1965، وقاده هذا الانشقاق برفقة الراحل ياسين الحافظ وغيرهما إلى تأسيس حزب العمال الثوري، الذي تولى أمانته العامة بعد وفاة ياسين الحافظ في عام 1978.
في حزب العمال الثوري، تمكّن طارق أبو الحسن مع أعضاء آخرين من البلدان العربية المشرقية، وبالتشاور والتعاون مع مثقفين سوريين مرموقين مثل إلياس مرقص وجورج طرابيشي من خارج الهيكل التنظيمي للحزب، ومع وجود دور نظري محوري لياسين الحافظ داخل الحزب، من صياغة خط فكري–سياسي، يتعارض مع الخط القومي التقليدي، ومع الاتجاهات اليسارية السائدة حين ذاك، ولا سيما الستالينية وتعبيراتها المحلية.
استند هذا الخط الفكري- السياسي إلى جملة واسعة ومترابطة من المفهومات، غير المفكَّر فيها وقتها من جانب اليساريين والقوميين، مثل التأخر التاريخي، الفوات التاريخي، نقص الاندماج الوطني، ضرورة تأسيس الاشتراكية على قواعد ليبرالية، واستيعاب هذه الأخيرة من دون المرور في مرحلة ليبرالية خالصة، وكذلك الذهاب من الحيز السياسي إلى الحيزات المجتمعية والثقافية والاقتصادية والتعليمية، التي تقرِّر السياسي وتفرزه، والثورة القومية الديمقراطية العلمانية، التي بانتفائها، تحولت الاشتراكيات المحققة في سوريا والعراق وليبيا واليمن وغيرهم إلى “تأخراكيات” متوحشة، وخير الشهود على ذلك تجربة البعث السورية. وكذلك، ضرورة تبني الحداثة والانفتاح على الكونية والمعاصرة، ودحض الاتجاهات المحلوية وأيديولوجيات الخصوصية المحلية، و”الهوية” الثقافية الدافعة باتجاه العودة إلى أصل سرمدي متعالٍ على قوانين التاريخ ونواميس البشر.
ترك طارق أبو الحسن خلفه تاريخًا وطنيًا سوريًا مديدًا، منذ اعتقاله وهو ابن الرابعة عشرة عام 1950، في عهد الشيشكلي، مرورًا باعتقاله في عهد صلاح جديد، إلى جانب مشاركته الراحلين جمال الأتاسي ورياض الترك وعبد الغني عياش في تأسيس معارضة وطنية ديمقراطية في عهد حافظ الأسد، ممثلة بالتجمع الوطني الديمقراطي، الذي تأسس عام 1979، وبعد عام 2000 شارك بفعالية في أنشطة ما عرف بـ “ربيع دمشق”، حيث كان بيته في حي المزة في دمشق مقرًا لعديدٍ من الندوات الفكرية والسياسية.
وبعد الانفجار السوري التاريخي في عام 2011، كان حاضرًا بقوة في الحراك السياسي الذي تمخض عن تبلور أطر وتشكيلات سياسية عديدة، ففي عام 2011، انتُخب في المكتب التنفيذي لهيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديمقراطي. وفي عام 2013 انتخب نائبًا للمنسق العام لهيئة التنسيق الوطنية، كما عين مستشارًا قانونيًا للهيئة العليا للمفاوضات في جنيف، وفي عام 2015 تم تكليفه بصياغة الإطار التنفيذي لقرار مجلس الأمن 2254، وفي عام 2015 شارك في المؤتمر الثاني للمعارضة في القاهرة، وأيضًا في المؤتمر الثاني لها في الرياض، وقبل وفاته بأسبوع نشر رؤية تفصيلية تعبر عن تصوره للمرحلة الانتقالية في سورية، بعد سقوط نظام الأسد، وقبل وفاته بأيام سلَّم إلى الصديق حازم نهار مخطوطة مذكراته، لكي يُصار إلى نشرها عن طريق مؤسسة ميسلون.
وبالتأكيد، ستسلط هذه المذكرات الضوء على مرحلة سوداوية من تاريخ سورية الحديث، وتضاف إلى مذكرات القادة البعثيين، الذين انشقوا باكرًا عن حزب البعث، ووصفوا تجربتهم المريرة في هذا الحزب-الكارثة، واتضح ذلك من خلال عناوين مذكراتهم، حيث عنون الراحل منصور الأطرش مذكراته تحت عنوان “الجيل المدان”، أما الراحل نبيل شويري فقد اختار عنوان “سورية وحطام المراكب المبعثرة”، ومنيف الرزاز اختار عنوان “التجربة المرة”، أما هاني فكيكي القيادي العراقي فاختار عنوان “أوكار الهزيمة”، وعنون المفكر مطاع صفدي مذكراته بـ “حزب البعث مأساة البداية ومأساة النهاية”، نعم يا لها من مأساة، بل يا لها من مآسٍ؛ لقد كان صعود هذا الحزب مأساة لسورية، وكان سقوطه نكبة تاريخية.
طوبى إلى طارق أبو الحسن، وطوبى لهؤلاء جميعًا، الذين امتلكوا ضمائر صاحية، وعقولًا مستنيرة، ونزاهة أخلاقية، بحيث نقدوا وفضحوا بنى التجربة البعثية–الكارثية.
وهذا يضع على السوريين، في ضوء هذا النقد والفضح، متابعة المسار ومحاولة الإجابة أو الإجابات عن سؤال: لماذا سمح السوريون لهذه التجربة أن تنشأ وتتغول، وتترك سورية حطامًا مفتوحًا؟.