خلال الحرب الدائرة بين “إسرائيل” من جهة وبين حركة حماس وحزب الله من جهة أخرى والتي عرفت باسم 7 تشرين الأول/ أكتوبر أو طوفان الأقصى، أعاد بنيامين نتنياهو على مسامعنا أن شرقًا أوسطًا جديدًا سيحل محل الشرق الأوسط الذي نعرفه.
عربيًا، لم يؤخذ هذا التصريح على محمل الجد، بل عدّ مجرد تهديدٍ فارغٍ أتى ردًا على حجم ما تعرضت له “إسرائيل” في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023. لكن مسار هذه الحرب كان مملوءًا بالمفاجآت، إن لم تكن تلك الحرب كلها مفاجئة لنا جميعًا، حتى في شرارتها الأولى. حيث ابتدأت الحرب، كما قيل، بقيام حركة حماس باختراق أمني لإسرائيل ووصل عدد الذين قتلتهم حماس خلال هذه العملية، كما ترجح عدة مصادر، إلى 1538 إسرائيليًا بين عسكري ومدني ورعايا أجانب.
لم نعتد خلال الحروب أو المواجهات ما بين “إسرائيل” وحماس، أو بينها وبين حزب الله، أو حتى بينها وبين الجيوش النظامية العربية حصيلة كهذه من القتلى تتكبدها “إسرائيل”. وهذه بداية المفاجآت. فلطالما كانت شرارة الحرب بين “إسرائيل” وما تسمى حركات المقاومة، لا تتعدى عملية اختطاف جندي إسرائيلي “كما حدث في جنوب لبنان عام 2006″، أو حتى بضعة قتلى في هجوم مسلح لا يتعدى عددهم أصابع اليد الواحدة. فحصيلة قتلى “إسرائيل” في حرب تموز كلها عام 2006 والتي استمرت 34 يومًا كانت 165 قتيلًا بين مدني وعسكري. بينما كانت محصلة قتلى “إسرائيل” والتي بدأتها في حربها في غزة بين عامي 2008 و2009، والتي استمرت 22 يومًا، هي 14 قتيلًا بين عسكري ومدني. وكانت الحرب الدائرة حربًا لا ينهي طرف فيها الآخر. أما في 6 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 فالأمر برمته مختلف. حتى إن الرواية حول شرارة هذه العملية قد لفها كثير من التشكيك في صحة ما جرى، بل سُردت روايات عديدة من مسؤولين إسرائيليين قبل غيرهم، وإحدى تلك الروايات أن ما جرى في 6 تشرين الأول/ أكتوبر، هو عملية لحركة حماس هدفت لخطف عدد من الإسرائيليين، وخلال هذه العملية فتحت مروحيات إسرائيلية النيران على الإسرائيليين، أي أن “إسرائيل” هي من أوقعت هذا العدد الكبير من القتلى، وهذا ما أكده بعض شهود العيان الإسرائيليين.
من هنا علينا استقراء الاختلاف في الرد “الإسرائيلي” هذه المرة. وهذا ما جرى حقًا. ولم يطل علينا 6 تشرين الأول/ أكتوبر 2024 إلا وشاهدنا مفاجآت أخرى مبهرة، مثل: سقوط آلاف العناصر من حزب الله بين قتيل وجريح في عملية تلغيم “البيجر”، وقد تسرَب أن هذه العملية قد خطط لها منذ أربعة أعوام. ليليها استهداف قادة حزب الله بمن فيهم حسن نصر الله الأمين العام لهذا الحزب، وصفوف الحزب الأولى والثانية وطرق إمداده ومستودعاته، أي، واقعيًا، أُنهي وجود حزب الله الذي نعرفه. ولم يتوقف الأمر هنا، بل امتد ليطال مقار وسلاح حزب الله وميليشيات إيران ضمن الأراضي السورية، وعلى كامل الجغرافية السورية. كما استهدفت “إسرائيل”، كما نعلم جميعًا، إيران في عقر دارها، وذلك كله تأتى ضمن صمت مطبق من رأس النظام السوري بشار الأسد.
سوريًا، يعلم الجميع أن جيش نظام الأسد هو جيش منهار القوى، الأمر الذي استدعى تدخل قوات عديدة إلى جانبه لمنع إسقاط بشار الأسد وعلى رأسها حزب الله وميليشيات إيرانية طائفية أخرى. ومع ذلك بقيت كفة الفصائل المسلحة المعارضة لبشار الأسد هي الراجحة. الأمر الذي استدعى لاحقًا دخول روسيا عسكريًا إلى جانب نظام الأسد وإنقاذه من الانهيار والسقوط. أما المتغيرات التي طرأت ما بعد 7 تشرين الأول/ أكتوبر، فقد أدت إلى بقاء جيش نظام الأسد وحده في الميدان، خصوصًا أن القسم الأكبر من السلاح والعتاد الروسي قد انسحب في سبيل استخدامه ضد أوكرانيا. الأمر الذي جعل الطريق إلى دمشق ممهدة لمن يريد.
إلى الآن، تُختتم المفاجآت بمفاجأة من العيار الثقيل، مفاجأة مزلزلة؛ عملية “ردع العدوان” وجولاتها السريعة والمتلاحقة والمحرَرة لمعظم الجغرافية السورية من سلطة الأسد وصولًا إلى دمشق وهروب بشار الأسد إلى روسيا، وذلك كله في 12 يومًا فقط. حيث استسلمت جميع القطعات العسكرية التابعة للأسد لإدارة العمليات العسكرية بقيادة أبو محمد الجولاني قائد هيئة تحرير الشام “جبهة النصرة” سابقًا.
هذا السرد المقتضب للحوادث في المنطقة، منذ 6 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 وحتى 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024 يدفعنا نحو طرح عديدٍ من التساؤلات، وأقول تساؤلات، لا اتهامات. ويحق لنا، نحن السوريين، أن نطرح أسئلتنا حول حوادث تجري في بلدنا سورية وحوادث ستؤثر في مستقبل سورية والمنطقة برمتها.
- حين نقول إن السوريين جميعهم قد فوجئوا بعملية “ردع العدوان” منذ انطلاقتها وصولًا إلى هروب بشار الأسد. ألا يعني ذلك أن لا أحد من السوريين على معرفة بما جرى ويجري؟ ألا يعني ذلك أيضًا أن من قام بعملية “ردع العدوان” لم يكن، وضمن السياق العام، إلا أداة فقط. أداة للإجهاز على نظام بشار الأسد المنهار أصلًا من جراء ثورة السوريين ضده. وبعبارة أخرى: إن لم يكن السوريون على علم بما اتفق عليه في عملية “ردع العدوان” فكيف سيكون لهم إرادة فيها؟
- لماذا اختارت الدول المخططة والداعمة لعملية “ردع العدوان” فصيلًا ذا حساسية خاصة مثل هيئة تحرير الشام لقيادة هذه العملية ولإسقاط الأسد؟ ونقول ذو حساسية خاصة، لما لهذا الفصيل من مرجعية متطرفة ومن تحوّلات فجائية في الخطاب، وكونه على لائحة الإرهاب الأميركية والأوروبية. ونضيف إلى ذلك، ممارساته القمعية التي وصلت حد إطلاق الرصاص الحي ضد المتظاهرين ضده في إدلب والذين اتهموه وهيئته بالفساد والاستبداد، وهذه الهيئة وبقيادة الجولاني هي من رعت ودعمت أنشطة “ثقافية” اتهمت مفهومات مثل الديمقراطية والنسوية بالزندقة والفجور.
- لماذا لم يقع الاختيار، من جانب الدول الراعية والداعمة لعملية “ردع العدوان”، على ترؤّس هذه العملية من طرف ضباط منشقين ومعروفين بوطنيتهم، وما أكثرهم. وهنا أيضًا يمكننا أن نطرح سؤالًا آخر:
- لماذا لم يكن واقع “إدلب” كواقع غيرها من المحافظات السورية الثائرة كحماة وريف دمشق وحلب وغيرها؟ أي لماذا سُلّمت وجُعلت مكانًا لزج جميع الفصائل المسلحة المعارضة فيها، وجرى الاحتفاظ بهم هناك، في حين أن باقي المحافظات السورية الثائرة قد أُفرغت من معارضيها ومسلحيها؟
- تركة جيش النظام العسكرية من أسلحة وعتاد وذخائر هي، من المؤكد، من النقاط التي اتُفق عليها قبيل انطلاق “ردع العدوان”، وفي الواقع رأينا التدمير الإسرائيلي لهذه التركة على مدار الساعة. والحجة كانت دائمًا “كي لا تقع في يد قد تستخدمها ضد “إسرائيل”. وهذا منطقي “إسرائيليًا”. لكن ومع احتلال “إسرائيل” لأراضٍ سورية جديدة؛ ألا يدفعنا ذلك إلى أن نسأل السؤال الآتي: من البديهي القول إن عملية “ردع العدوان” أتت حتمًا بموافقة أميركية وإسرائيلية، وما كانت لتحدث من دون هذه الموافقة، فتركيا وبعض دول الخليج لا تستطيع وحدها أن تقوم بهذه العملية من دون تلك الموافقة. ألا يثق من وافق على عملية “ردع العدوان” ودعمها وخطط لها بنيات قادتها تجاه تركة جيش النظام العسكرية؟ وأيضًا:
- أليس من باب الاحتمال، أن تكون أميركا وإسرائيل قد حسبتا حسابًا لانفلات واقتتال ما، أو قد خططتا لذلك، ما بعد سقوط الأسد؟ وفي هذه الحالة، تصبح تركة نظام الأسد العسكرية حقيقةً مصدر قلق بالنسبة إلى إسرائيل. ونرفق هنا سؤالًا قد يكون متممًا للسؤال السابق: أين تبخرت قوات الأسد، وأخص بالسؤال هنا: الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري وضباط وعناصر الأفرع الأمنية؟ والسؤال هنا عن قوات قوامها الآلاف. وإن كان الجواب، كما وصل عبر الإعلام، أنهم فرّوا إلى لبنان والعراق وإيران، فيمكننا أيضًا أن نسأل: هل كان هذا بالتنسيق مع الجانب اللبناني والعراقي والإيراني؟ وإن كان التحليل بخصوص تنسيق مع الجانب اللبناني غير منطقي، فهذا لا ينطبق مع الجانبين العراقي والإيراني، فما هو الدور المنوط بهذه القوات مستقبلًا؟
- إن تاريخ المنطقة العربية الحديث، ولا سيما سورية، يشهد بما لا شك فيه أن نيات وممارسات الخارج تجاهه لم تهدف إلا لزعزعة استقراره وإضعافه على حساب مصالح الدول المتدخلة. منذ “سايكس بيكو” وحتى نظام الأسد. وإذا أضفنا إلى هذا ما مورس من الخارج، ولا سيما من جهة أميركا و”إسرائيل” في سبيل إبقاء الأسد واستمراره في السلطة ومنع انهياره خلال الثورة السورية، هذه الثورة التي تعكس إرادة سورية خالصة، يجعلنا نطرح تساؤلًا حول هدف تلك الدول ذاتها من دعمها لعملية “ردع العدوان” وحول التخلي عن نظام الأسد.
- ألا يحق لنا أيضًا أن نتساءل، باستغراب واستهجان، عن حجم التناقض في التعاطي مع نظام الأسد من بعض الأنظمة العربية؟ بما عرف بـ “إعادة تعويم الأسد” والتساؤل كذلك حول الاستجداء واللهاث التركي وراء تطبيع العلاقات مع الأسد ما قبل وخلال 6 تشرين الأول/ أكتوبر وصولًا إلى اتخاذ القرار بالإطاحة به؟ هل وجدت تركيا أن ما يخطط لسورية ليس في مصلحتها وارتأت أن بقاء بشار الأسد هو خيارها الأقل سوءًا؟ وحين أدركت حتمية زواله سارعت وأشرفت على إسقاطه.
- لماذا علينا، نحن السوريين، أن نصدق ونسلًم بما يُروٍج له الجولاني من أن سورية لجميع أبنائها وسورية التي تنتظرنا هي سورية؛ حيث الحرية فيها مصانة ولا تدخل بمرجعيات البشر فيها، دولة حرة لا تكفيرية ولا مكان فيها للإقصائيين. هل علينا أن نجبر ذاكرتنا أن تكون ذاكرة سمكية؟ جرى الحديث عن سجون الأسد وهذا طبيعي. ولكن، ماذا عن سجون هيئة تحرير الشام؟ ماذا عن التقلب في هوية هيئة تحرير الشام وخلال أوقات لا تكفي لمراجعة نقدية شاملة للفكر السلفي الجهادي كي نحكم عليها، كما برر رجالها، بأنه تغيير ناتج من وعي ونضج وقراءات مستنيرة، ولدى الشعب السوري معرفة يقينية بكيفية تبديل فصائل عديدة لجلودها بحسب ما تقتضيه مصلحة هذا الفصيل أو ذاك. ونحن هنا لا نتحدث عن ممارسات هيئة تحرير الشام منذ عقود أو سنوات، بل نتحدث عن البارحة فقط. وأهل إدلب أدرى بشعابها.
- أخيرًا، كون ما جرى قد جرى من دون إرادة سورية، فنحن الآن رهائن ما اتفق عليه القائمون على الشرق الأوسط الجديد، وهذا يجعلنا أمام خيارات تنوس بين دولة ضعيفة مسحوبة الدسم يعيش أبناؤها في بحبوحة مقبولة ضمن أمن حذر وسلام هش، وبين دولة تدور فيها رحى العنف إلى حد استقرارها عند شكل ومستوى يجده القائمون على الشرق الأوسط الجديد يلائمهم.
إن هذه الأسئلة المشروعة لا بد أنها تجول في خاطر كل سوري غيور على مصلحة سورية ومستقبلها، سورية التي دفعت أثمانًا باهظة لم تدفعها دول أخرى في سبيل تحررها من الاستبداد والفساد. وهي أسئلة أرى بوجوب محاولة الإجابة عنها من جميع السوريين. فهذه الأسئلة، باعتقادي، تسلط الضوء على أمور من شأنها أن تعطينا مساحة من التفكير الهادف إلى عدم الخوض في تجربة استبداد جديدة، هي أسئلة، تستهدف التحليل الواقعي الخالي من الأمنيات والرغبات، وقد يكون من الصعب اليوم التفكير جديًا ومليًا في هذه الأسئلة وغيرها، لما يعيشه السوريون من فرح عامر طال انتظاره. بل دفع في سبيله كثيرٌ من الأرواح والعذابات والتشرد. فالسوريون حقًا متعبون، فما ذاقوه خلال الأعوام الثلاثة عشر السابقة لا يتحمله إلا الجبارون. وهم يستحقون أن تكون سورية ما بعد الأسد هي سورية الدولة الديمقراطية الحديثة، دولة لجميع أبنائها، دولة الحق والقانون، دولة خارج تصورات الشرق الأوسط الجديد الذي بشَرنا به بنيامين نتنياهو.
إن الضامن الأساسي والأولي للسوريين لعدم تكرار تجربة التفرد بالسلطة ولعدم تمكن الاستبداد والمستبدين منها، ومهما اختلفت مرجعيات هذا الاستبداد، أكانت دينية أم قومية أم يسارية، هو وضع مصلحة سورية الوطن فوق جميع المصالح؛ الشخصية والفئوية والجهوية، وهذا يستدعي عدم الاطمئنان لأي وعود، مهما كان بريقها ولمعانها، وأعتقد أن تجربة سنوات الثورة وحدها كافية لتجعل منا خبراء في تقويم صدق وحقيقة ما يُصدر لنا كمشاريع تداعب عواطفنا وترضي طموحاتنا وبين فكر وممارسات الأشخاص أو الجهات التي تصدَر لنا تلك المشاريع. وإن القول بهذا لا يأتي من باب التشكيك بأحد أو من باب إقصاء أحد أو من باب إطلاق الأحكام المسبقة على أحد، فسورية أكبر من الجميع، إنما من باب ضرورة أن نعمل جميعًا على بلورة مشاريعنا الوطنية بما نرتئيه نحن السوريين، من دون أن نكون أسرى دول أو أيديولوجيات خبرناها طوال سنوات الثورة. إن التفكير والعمل بفاعلية على سورية الجديدة، سورية الديمقراطية والمواطنة والعدالة، هو ما يعيد لنا إرادتنا وسيادتنا، ويحررنا من ارتهاننا، وهو ما يضمن لنا مستقبلًا أفضل. فسورية اليوم ساحة مفتوحة لجميع أبنائها، وما نزرعه من عمل وما نوظّفه من وعي راكمناه خلال السنوات الماضية، سيضمن لنا حصادًا عادلًا.