Search

إلياس مرقص المثقف الفيلسوف, قراءة في ترسيمته النظرية

قراءة في ترسيمته النظرية​

المحتويات:

مقدمة

مقدمات الرؤية الفلسفية

أسئلة مفتوحة

البنية الفلسفية الباطنة في مؤلفات إلياس مرقص

1. الروح، التملك، العمل (التموضع والاغتراب)

الواقع؛ جدلية المكان والزمان

2. الموضوعية/ الذاتية ورهان الحقيقة

3. استقلال الوجدان وحرية الضمير

4. الحوار هو طريق إنتاج الحقيقة

5. الرؤية والطريقة أو المنهج

6. وحدة التاريخ البشري والفكر البشري

7. فكرة التقدم أو النمو

8. المجتمع المدني والدولة السياسية (الإمكانات الأخلاقية للأسرة)

9. الديمقراطية؛ حقوق الإنسان والمواطن/ـة

10. وحدة الأنوثة والذكورة، وتكافؤ المرأة والرجل

11. وحدة الدين والدنيا

12. العلمانية

التموضع، الاغتراب، والتشيؤ

1. نقد النزعة العلموية

2. الطبقة العاملة ذات أم موضوع

3. البيئة، بيت الوجود الإنساني

خاتمة

مقدمة

يروي جان بوتوريل في كتابه الممتع (أعزائي المحتالين) أن فرانسوا ميتران الذي كان قد انتُخب قبل وقت قصير رئيسًا للجمهورية، وتلقَّى من مرغريت تاتشر دعوة لزيارة المملكة المتحدة، طلب أن يلتقي بعدد من مثقفي البلد. أجابه موظفو 10 داونينغ ستريت بأنهم ربما يجدون له كتَّابًا أو مؤرخين أو فلاسفة أو باحثين، ولكن ليس مثقفين.

ويضيف: (المثقفون يتمتعون في فرنسا بمكانة خاصة، يمكن إرجاعها إلى عصر الأنوار. وإرجاع تجذرها إلى إميل زولا وقضية دريفوس. إنهم ليسوا رجال معرفة أو علوم، فحسب. لا شك في أنهم يستطيعون تطوير مستوى المعرفة، وتقليص حدود المجهول، لكن مساهمتهم في قضايا الجدل الذي يخوضه المجتمع هي التي تصنع الفرق، والتي توصلهم إلى مرتبة المثقف المرموقة. يتمتع فولتير بمكانة خاصة لأنه، إضافة إلى مؤلفاته، وقف إلى جانب القضايا الإنسانية العامة باسم الفكرة التي كونها عن العدالة، حين اتُّهم جان كالاس، ذلك البروتستنتي زورًا، بسبب انتمائه الديني، بقتل ابنه ([2]). والتزام فيكتور هوجو السياسي، سواء تعلق الأمر بدفاعه عن الجمهورية، أو نضاله ضد حكم الإعدام، أو تصدِّيه للقضايا الاجتماعية، لا يجعل منه كاتبًا عظيمًا فحسب، بل أحد عمالقة البانثيون الفرنسي.. ولم يكتب مالرو عن الجمهوريين الإسبان وحسب، بل وقف إلى جانبهم) ([3]).

بهذا المعنى لصفة المثقف، وبدلالة المكانة المرموقة التي يحتلها المثقفون أو ينبغي أن يحتلوها، عندنا، ننظر إلى إلياس مرقص بصفته مثقفًا أسهم إسهامًا عميقًا وأحدث فرقًا، في قضايا الفكر والسياسة، في الحركة السياسية السورية بوجه

خاص، كالفرق الذي يحدثه المبدعون في مختلف المجالات؛ إذ كان غنيًا عن السلطة والشهرة. علاوة على اهتمامه بالفلسفة وتاريخها تمثُّلًا ونقدًا، وعمله على الارتقاء بمستوى المعرفة إلى أفق العصر، والتزامه المبدئي بالدفاع عن كرامة الإنسان وحريته وعن الحقوق المدنية والسياسية، ووقوفه إلى جانب المفقرين والمهمشين، وتعرية الأوضاع الاجتماعية والسياسية التي جعلتهم كذلك. فلعله أول مفكر سوري، وقد يكون أول مفكر عربي، بحسب ما نعرف، فسَّر الانحطاط والركود والاستبداد الكلي، بتدهور الشرط الإنساني عمومًا، وتدهور شرط المرأة، أو الشرط النسوي، على الخصوص. ومن ثم، فهو أول مفكر سوري، بحسب ما نعلم، وضع الإنسان، الفردَ الإنسانيَّ العيانيّ، الرجلَ والمرأةَ، على السواء، في مركز اهتمامه ومركز منظومته الفكرية التي نحاول تعيين إحداثياتها من خلال الخرائط المتتالية التي كان يرسمها فكره النيِّر، في أثناء حواراته ومقارباته، وسجالاته أيضًا، مع الاتجاهات الفكرية السياسية، ومع الأحزاب والتيارات الشيوعية والقومية.

ولا نخفي أن غايتنا من هذا التفريق انتشال صفة المثقف من درك الإسفاف والابتذال اللذين بلغتهما في ظل الاستبداد والتسلط، وكلبية المستبدين والمتسلطين كبارًا وصغارًا الذين لا يعرفون سوى أن يحكموا، وينهبوا، وتماهي (فقهاء) السلطة، على اختلاف أشكالها، بسادتهم وأولياء نعمتهم. لذلك، رأينا في إلياس مرقص نموذجًا للمثقف الفيلسوف يُحتذى به على صعيدي المعرفة والأخلاق، ويُنتقَد أيضًا.

هموم إلياس مرقص، المثقف المهموم، انبثقت من سورية، بلا شك، من سورية، ومن العالم العربي، من الجمهورية العربية المتحدة، وما حملته من آمال، ومن انفصال شطريها، من هزيمة حزيران (1967) وما تلاها من هزائم، سميت انتصارات، وانبثقت بوجه خاص من إدراكه العميق لتدهور الشرط الإنساني. لكنَّ سورية في العالم، وفي التاريخ. رؤيته تجاوزت سورية والعالم العربي، من أجل سورية والعالم العربي، أو العالم الإسلامي، وكلهم في العالم والتاريخ، كلياتٍ عينيةً، في كلية عينية كبرى هي الجماعة الإنسانية، وهذا ما سماه الفيلسوف الألماني كنت (الاستعمال العمومي للعقل)([4])، وهو مبدأ الحياة الأخلاقية، ومبدأ الاستنارة والتنوير. هذا المبدأ أساسي، إن لم نقل إنه المبدأ الأساس في فكر إلياس مرقص، مبدأ الكونية والمعاصرة، كما ستبين هذه المقاربة.

كلمة العقل في عبارة كنت وفي منظومة مرقص، لا تنفي إمكان خطأ الذات، فالعقل ليس معصومًا عن الخطأ، كما صورته خطابات (العقل والعقلانية)، وحوَّلته إلى مقولة تفاضلية، وجعلت من (العقل الغربي) مرجعية معيارية، ومن (العقل البرهاني) نموذجًا أعلى، في الثقافة العربية، بغض النظر عن شروط الحياة الإنسانية، مع أن (العقل أعدل الأشياء قسمة بين الناس) حسب ديكارت. العقل وحده، مفصولًا عن الأخلاق، لا يتجه بالضرورة نحو الحق والخير والجمال، أو نحو العدالة والفضيلة. فلعل مزية إلياس مرقص، اقتران العقل والأخلاق في فكره وممارسته، انطلاقًا من المبدأ، مبدأ (استقلال الوجدان وحرية الضمير)، ومبدأ (الجهاد الأكبر)، أو مراجعة الفكر على الواقع، والأهداف على النتائج.

هل أخطأ إلياس مرقص في هذه القضية أو تلك، في هذا الموقف أو ذاك؟ لو كان بيننا، وسألناه، لقال: أجل. فقد كان يرى أن للخطأ قيمة بيداغوجية، تعليمية وتربوية وأخلاقية، على الرغم من كونه جرحًا معرفيًا وأخلاقيًا، في العقل والضمير، لا يُعالج إلا بنقد الذات، وأن له مصدرين: مصدر معرفي، ومصدر اجتماعي – اقتصادي سياسي. وكان يعتقد اعتقادًا راسخًا بأن معرفة الإنسان ناقصة دومًا، وما من معرفة تامة سوى تلك المكتوبة في الغريزة (المعلومات المنقوشة في الشفرة الجينية للكائن الحي). المعرفة الناقصة، معرفة الإنسان، مفتوحة على التجدد والنمو إلى ما لا نهاية. وكان يقول: (إما أن نريد الفكر وإما ألَّا نريده، إذا كنا نريده فأهلًا وسهلًا بالخطأ، وأهلًا وسهلًا بالباطل، ولننفه بالدحض من أساسه، منهجيًا، بالتناصت والتجابه والمتابعة، ومن حق أي إنسان أن يخطئ) ([5]).

عندما واتاني الحظ وتعرفت به عام 1970، وكنت قد فرغت للتو من قراءة كتابه (نظرية الحزب عند لينين والموقف العربي الراهن)، وكنت معجبًا به أي إعجاب، ذكرت له ذلك في أول حديث بيننا في بيته باللاذقية، فقال: (لقد استعملت النفي، في هذا الكتاب، ولكنني لم أصل إلى نفي النفي)، ففهمت أنه لم يعد راضيًا عن الكتاب أو عن بعضه. سبب ذلك، ربما، أن فكر لينين كان ما يزال، حتى ذلك الوقت، نموذجًا مرجعيًا لنقد ستالين، وقد أفاض مرقص في نقده، بل في تفنيده.

ربما فوَّت إلياس مرقص، وصديقه ياسين الحافظ، اللحظة الليبرالية في سورية، بعد تجربتهما القصيرة في الحزب الشيوعي، وتأثرهما بما أسمياه (المناخ (النهضوي)، الذي دشنته ثورة 1952 في مصر، فانتقلا من قضية أممية، ما فوق سورية، إلى قضية (قومية)، ما فوق سورية (sup Syrian)، ولكنهما، رأيا في الثورة المصرية ما هو أهم وأبعد من السطح السياسي. رأى مرقص أن الثورة نقلت مصر من مجتمع الـ 2,5 بالمئة إلى المجتمع المصري الكلي، بإجراءات الإصلاح الزراعي والتأميم، وإدماج الكتلة الشعبية التي كانت مهمشة ومستغلة وهامدة أو غير مرئية، في عالم الثقافة والسياسة، وعدّا بناء سد أسوان، وشق قنوات الري، وتوليد الكهرباء ووضع مصر على سكة التصنيع، إضافة إلى (تسييس الشعب)، إرهاصات بثورة اشتراكية تنجز مهمات الثورة الديمقراطية. لذلك قرر مرقص والحافظ الوقوف إلى جانب عبد الناصر مع النقد (التحالف مع النقد). ولكن هذا الأخير، أي النقد، أدى بعد هزيمة 1967 إلى استعادة الليبرالية ماركسيًا ووطنيًا ووحدويًا ([3])، وأكاد أقول استعادة النسغ الحي في الماركسية والمسالة القومية على السواء، أعني الإنسية والعقلانية

العقلانية ([6])، أو العقلانية النقدية، والعلمانية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق المواطِنة والمواطن، والمجتمع المدني (البورجوازي)، على قاعدة الإصلاح الزراعي والتصنيع، وسيرورة الاندماج الاجتماعي.

لموقف مرقص والحافظ من الناصرية جذر شعبي، قوامه الرهان على حركة شعبية واسعة، تتصدى لفعل تاريخي كلي، (ثورة قومية ديمقراطية ذات أفق اشتراكي)، يقول مرقص: (… الجماهير بحسب تعريفي هي الكتل الشعبية الكبرى زائد فكرة التقدم، (والتقدم عنده هو النمو، النمو الإنساني، أو التنمية الإنسانية الشاملة)، بهذا المعنى، أصر على أن العصر الناصري والحركة الجماهيرية الناصرية هي الكتل الشعبية الكبرى زائد فكرة التقدم. وهذا التعريف هو مدخل لفهم تلك المرحلة وتلك الحركة والأخطاء المرتكبة في المستويات المختلفة) ([7]).

لا تُنكر على إلياس مرقص حماسته للتقدم، ولكن يمكن أن يؤخذ عليه أنه لم يتنبه للظاهرة الجماهيرية، بما هي مَعْلم من معالم التسلطية أو التوتاليتارية التي بدأت تتشكل في قلب النظام الناصري، واستطالته البدوية الليبية، ثم في نظام البعث في سورية والعراق. الحماسة تحجب النظر، ولعلها نوع من التعصب الإيجابي، إذا جاز التعبير. ولكن مرقص والحافظ ميزا عروبة عبد الناصر من قومية البعث (المشرقية، العنصرية)، وبادرا إلى نقدها وتفنيدها، ونقد سلطتها وسياساتها. وفي الأحوال جميعها، حين بزغت الناصرية وصعد نجمها لم يكن إلياس مرقص قد شفي بعد من الدوغمائية الماركسية اللينينية الستالينية. فقد اعترف بشجاعة تحسب له بأنه كان دوغماتيًا في مرحلة من مراحل حياته الفكرية والسياسية، (من منا لم يكن كذلك في يوم من الأيام، على افتراض أننا لسنا كذلك اليوم؟) لعل مرد ذلك الظن الذي ما يزال سائدًا أن العقيدة هي ما يوحد الجماعة والحزب، وما يوحد الأمة.

([1]) جان جاك روسو، دين الفطرة، ترجمة عبد الله العروي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء وبيروت، 2012، ص 130.

([2]) راجع/ي، فولتير، رسالة في التسامح، ترجمة هنرييت عبودي، منشورات رابطة العقلانيين العرب، دار بترا، دمشق، 2009، ص 9 وما بعدها.

([3]) عن باسكال يونيفاس، المثقفون المزيفون، النصر الإعلامي لخبراء الكذب، ترجمة روز مخلوف، ورد للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، 2013، ص 13 – 14.

[4]) إيمانويل كانط، ما هو التنوير، ترجمة عبد الله المشوح، على الرابط: http://hekmah.org/.

([5]) إلياس مرقص، قضايا وشهادات: الثقافة الوطنية، ج2، عيبال، المغايرة الكون والتاريخ، (ربيع 1992)، ص32.

([6]) كان إلياس مرقص يصف نفسه بأنه وحدوي، لا قومي. هذا الوصف يطرح سؤال الوحدة على قاعدة جديدة غير أيديولوجية (القومية العربية)، المشرقية والعنصرية، كما وصفها ياسين الحافظ.
([7]) نعني بالعقلانية العقلانية وحدة المصالح والمبادئ، واتساق الأهداف والوسائل، وهذه نقيض العقلانية النفعية، التي ينتهجها الأفراد والجماعات لتعظيم مصالحهم الشخصية والخاصة، والتي يمكن أن تؤول إلى سينيكية (كلبية) على الصعيد الأخلاقي، حين تنفصل عن المصلحة العامة، وتتجاوز القوانين والأعراف والقيم الاجتماعية، فتولد الفساد الاقتصادي والمالي والإداري والسياسي والأخلاقي، وتجعل منه ركنًا أساسيًا من أركان النظام، فيكف النظام عن كونه نظامًا عامًا.

([8]) مرقص، حوارات لم تنشر، ص 83.

 

جاد الكريم الجباعي

مفكر سوري من مواليد عام 1945، مجاز في اللغة العربية وآدابها من جامعة دمشق 1968-1969، عمل معلمًا، ثم مدرسًا للغة العربية، حتى عام 1982. مهتم بالفكر السياسي ومسائل الديمقراطية وحرية الفرد وحقوق الإنسان والمواطن. نشر عشرات المقالات والدراسات والبحوث في صحف ومجلات عربية، وعددًا من الكتب منها “المجتمع المدني؛ هوية الاختلاف” و”قضايا النهضة”، و”طريق إلى الديمقراطية” و”من الرعوية إلى المواطنة” و”فخ المساواة.. تأنيث الرجل تذكير المرأة”، وغيرها. شارك في الحياة الثقافية والسياسية في صفوف المعارضة السورية، وفي ندوات ومؤتمرات علمية.

مشاركة: