Search

هجر الفلسفة ظاهرة عالمية

عندما يفكر الناس في الفلسفة، يتصوّرون كتبًا بآلاف الصفحات وكلامًا مجردًا غير ذي صلة بواقعهم اليومي. ويوم كنت أقول للأشخاص من حولي إنني أدرس الفلسفة، كانت ملامح وجوه العديد منهم تتغير لترتسم عليها علامات الاستغراب الممزوجة بالنفور والشفقة؛ لأنهم يتخيّلونني شخصًا سأكون في المستقبل منعزلًا، وألبس ثيابًا رثة غريبة وجوربًا مختلفًا في كل قدم، وأرخي شعري وأسير في الشارع من غير هدى، أتكلم مع نفسي.
قد يحسب البعض أنّ الموقف السلبي التهكمي تجاه الفلسفة محصور بمجتمعاتنا العربية، مع العلم أنّ هجر الفلسفة والتعامل معها كشيء لا طائل منه ولا علاقة له بالحياة الواقعية، هو، وإن بدرجات، ظاهرة عالمية، وليست جديدة تمامًا. والمفارقة، هي أن النقد الأقسى للفلسفة والفلاسفة تاريخيًّا جاء من أشخاص نصنفهم فلاسفة. فـقد رفض ألبير كامو أن يُطلق عليه لقب فيلسوف، ووصف شوبنهور فلاسفة عصره، ومنهم هيغل، بأنهم تجار محتالون. أما نقد ماركس فكان الأقسى، وذهب إلى أن علاقة الفلسفة بدراسة العالم الواقعي هي أشبه بعلاقة العادة السرية بممارسة الجنس. لكن ما غفل عنه كامو وشوبنهور وماركس، وغيرهم من الذين انتقدوا وينتقدون، بأنهم لكي ينتقدوا الفلسفة عليهم أن ينخرطوا فيها.
اعتقد فلاسفة الإغريق أن الفلسفة تبدأ مع الدهشة وفضول الإنسان أمام كلّ شيء، ومحاولة إيجاد التفسير والمعنى للعالم والذات من خلال إعمال ملكة العقل. وربما تكون تلك البذرة الفلسفية مجبولة مع طبيعتنا البشرية، وربما تكون دهشة الأطفال وسؤالهم عن كل شيء دليلًا عليها، لكن أغلبية الناس يتوقفون عن ذلك عندما يكبرون، ويكفّون عن محاولة التعامل مع الأشياء والعالم من حولهم بطرائق جديدة خارجة عن المألوف. في هذا المعنى فإنّ في كلّ شخص احتمالية فيلسوف كونه يتوفر على إمكان التساؤل والشك.
لكن الفلسفة في عالم الأكاديميا اليوم هي شيء مقيد ومحدود. حيث يحرص الجهد الفلسفي الأكاديمي المعاصر، والذي في معظمه منطق رياضي ولسانيات، على أن يكون علميًّا قدر الإمكان، وتجنب التفلسف الذي قد تشم منه رائحة إنشاء أدبي. في النتيجة، إن التساؤل عن الوجود ومعناه ومصير الإنسان وعلاقته مع الكون، هي أسئلة تُستبعد على أنها تفكير ميتافيزيقي لا معنى له. لقد بات معظم العاملين في مجال الفلسفة الأكاديمية، في الشرق والغرب، أشبه بتقنيين عملهم محدد بساعات الدوام الرسمي، حالهم حال الطبيب والمهندس وعالم الأحياء. إنّ هذا التقييد والتحديد و”الحرفنة” للفلسفة الذي بدأ في الغرب مع سعي النشاط الفلسفي للتشبه بالعلم وتبنّي مناهجه، صار الدارج في الفضاء الفلسفي الأكاديمي بالإجمال.

وفي عالمنا العربي، النشاط الفلسفي المعاصر المنفعل بالنموذج الفلسفي الغربي هو في معظمه ترجمة وتحليل لما يكتبه الآخرون في الغرب. وليس في هذا مشكلة، وطبعًا هذا ليس لأننا لا نرغب في توليد فلسفة “أصيلة”، بل لأن تلك الرغبة أسيرة الشروط المعيقة لأي إنتاج فكري حر، سواء أكان فنًا أو إصلاحًا دينيًّا أو فلسفة. فإضافة إلى أزمة الفلسفة عالميًّا، فإن الشروط المحلية في مجتمعاتنا، وأبرزها غياب حرية التفكير والعقل النقدي، تزيد من صعوبة مهمة توليد إنتاج فلسفي عربي معاصر. هذا علاوةً على أن أي فكرة قد يرغب الشخص في التفلسف حولها، سيكون أحد المشتغلين في الفلسفة في العالم الغربي قد سبقه إليها، تمامًا مثلما يحدث عندما نريد تسجيل نطاق أو اسم لموقع إلكتروني بعد أكثر من 30 عامًا على ثورة الدوت كوم، فكل الأسماء التي قد نفكر فيها سبقنا إليها وحجزها أشخاص آخرون.
يعتقد جورج طرابيشي، وعدد من المفكرين العرب، أنه لا توجد فلسفة عربية حديثة أو معاصرة، ويُرجِعون ذلك لعدد من الأسباب، منها أن الفلسفة تعيش أزمة عالمية بسبب التطور العلمي ومحاولة الفلسفة حذو طريق العلم في اعتماد التخصص والمناهج التجريبية، وأن المجتمعات المنتجة للفلسفة اليوم هي ذاتها المنتجة للعلم، وهي مجتمعات الحضارة الغربية التي “تتحكم بالزمن الثقافي لباقي الحضارات”. إذًا، بحسب هؤلاء، كوننا لا ننتج العلم، لن يكون بمقدورنا إنتاج الفلسفة. لكن هذا الموقف يغفل أنّ العلم أساسًا جاء من الفلسفة، وكان اسمه الفلسفة الطبيعية، ولم يصبح فرعًا مستقلًّا عنها إلا في المئتي عام الماضية. وإن الفلاسفة من أرسطو والكندي والفارابي إلى ديكارت وغاليليو ونيوتن وحتى أينشتاين، كانوا علماء بقدر ما كانوا فلاسفة.
يتبنى العديد من المفكرين والفلاسفة العرب الفلسفة بمعناها الأكاديمي الغربي المقيد المحدود، وهذا يحيل على أن دور الفيلسوف ليس التعامل مع ما يشغل الناس من أسئلة كبرى حول ذواتهم ومعنى وجودهم في هذا الكون، بل الحرص على توضيح الأشياء الصغيرة. لكن الافتراض بأن أزمة الفلسفة محصورة في خسارة دورها لمصلحة العلم في قضايا مثل الفيزياء والطب وعلم الأحياء والفلك وغيرها، وأن دورها بات محصورًا في موضوعات المنطق الرياضي واللسانيات والأبستمولوجيا، وعدّ ما عدا ذلك تفكيرًا ميتافيزيقيًّا ليس له معنى، هو افتراض يساهم في تثبيت وتعميق اغتراب الفلسفة عن الناس كونها لم تعد ذات صلة بأسئلتهم ومشكلاتهم، بدلًا من ذلك لدينا العلم ليتكفل الإجابة عن أسئلتنا وهندسة الحلول لمشكلاتنا. لا شك أنه عبر رحلة الفلسفة انتقلت العديد من المشكلات الفلسفية إلى بيت العلم وهذا طبيعي، كأطفال يولدون في مكان ويكبرون لينتقلوا للعيش في مكان آخر. لكن ثمة جوانب في الوجود الإنساني لا يمكن أن تكون علمية.

هل يستطيع العلم وحده أن يقدم إجابات عن أسئلة الإنسان العربي المعاصر، والتصدي لمهمة مراجعة تراثنا ولغتنا وأدياننا، وتحديد الصواب والخطأ في منظومتنا الأخلاقية، وتعريف السعادة والحرية والحب والجمال؟ ثمة رأي يؤمن بأن الإنسان في عالمنا العربي في حاجة إلى تحقيق حاجاته الأساسية من غذاء ودواء ومأوى وحياة كريمة، قبل أن يستطيع الالتفات إلى الفلسفة. لكن أَلَا تولد الفلسفة من رحم المآسي والأزمات، الفردية منها والجمعية؟ مثل مآسي الحرب العالمية الثانية التي انبثقت من ركامها الفلسفة الوجودية.
مع تعقّد أزماتنا كمجتمعات عربية وتشابكها مع المشكلات والأزمات العالمية، وغياب الإرادة للبحث عن حلول جماعية للبشرية، تمسي الإجابة عن الأسئلة الفلسفية الرئيسة: ما الذي يمكن أن يكون صحيحًا في ما أعرفه؟ وكيف وصلتُ إلى معرفتي تلك؟ وما الإجراءات التي يمكن أن أتخذها بناءً على تلك المعرفة؟ أكثر إلحاحًا وأصعب من أي وقت مضى. وفي عصر الرقمية، ومع التدفق الهائل للمعلومات عبر الإنترنت، وفي عصر السوشال ميديا والتغريدة والهاشتاغ، فإن مهمة الإجابة عن سؤال: ما الذي يمكن أن يكون حقيقيًّا في ما أعتقده؟ ليست أبدًا بالأمر اليسير. فالحقيقة في عالمنا الرقمي ليست شيئًا موضوعيًّا يفرض نفسه على جميع العقول، بل في كثير من الأحيان متخيّلة أو مفبركة، ويمكن استهداف كل مجموعة من الناس بنوع مختلف من “الحقائق” المخصصة لتتلاءم مع تحيّزاتهم وتعصباتهم كأفراد في هذه المجموعة أو تلك.

عمر السعدي

مدير لوجستي متخصص في تخطيط العلميات اللوجستية وسلاسل الإمداد، حاصل على شهادة الفلسفة من جامعة دمشق، مترجم وكاتب أعد واستضيف بودكاست في المعنى الذي اقدم من خلاله مراجعات لكتب أختارها

مشاركة: