Search

مأزق السياسة بين المعرفة والأيديولوجيا

(تقديم لكتاب حسام الدين درويش “المعرفة والأيديولوجيا”)

(1)
على الرغم من أنّ نصوص الكتاب الذي بين أيدينا قد كُتبت في مناسبات مختلفة، وجاء بعضها في سياق التفاعل مع نصوص كتبها سياسيون ومثقفون وباحثون سوريون، خلال العقد الماضي، إلّا أنّها تؤلف مجتمعة وحدة متكاملة أو نسقًا متناغمًا ومتماسكًا، وكأنّها كُتبت وفق مخطّط ورؤية محدّدين سلفًا، ويُعزى هذا الاتساق والتماسك، بلا شك، إلى امتلاك كاتبها منهجًا متماسكًا في التفكير، ورؤيةً تحضر فيها الأدوات المعرفية بقوة، جنبًا إلى جنب مع حضور معقول، ومحتمل، لكن ضروري، وطبيعي، لشيءٍ من الأيديولوجيا أو الانحياز السياسي الذي لا يخدش موضوعية رؤيته.
تتناول نصوص الكتاب “الفكر السوري المعاصر” في العمق، تتعارك معه بصورة نقدية، طامحة إلى رؤى أكثر موضوعية، وأكثر فائدة في مقاربة الإشكالات النظرية والواقعية المطروحة على السوريين، ويشير كثيرٌ منها، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، إلى أنّ الخلل في الرؤية كان سببًا رئيسًا للإخفاق في الواقع. ومن ثمّ ليس غريبًا أن يختار الكاتب هذا العنوان المهمّ لكتابه “المعرفة والأيديولوجيا في الفكر السوري المعاصر”، على اعتبار أنّ جوهر إشكالاتنا الفكرية والسياسية يكمن في غياب تفكير جدي وعميق في ثنائية المعرفة والأيديولوجيا أو الخلط أو العراك بينهما أو عدم فهم التشابك بينهما، على الرغم من أنّهما حاضران بصورة واضحة أو في خلفية الجدل الدائر حول الواقع السوري، وفي أساس الممارسات السياسية الخاطئة أو اللاعقلانية التي تحفل بها الساحة السورية. لذلك أودّ التركيز في هذه المقدمة القصيرة للكتاب على العلاقة بين المعرفة والأيديولوجيا كونها الموضوعة الرئيسة التي تجمع نصوص الكتاب من جهة، وكوني أشارك الكاتب في رأيه من حيث كونها الإشكالية الأساس في “الفكر السوري المعاصر” في تناوله لمشكلاتنا الفكرية والسياسية من جهة ثانية.
إنّ إدراك المفاهيم مسألة مهمّة ومحورية في الفكر والسياسة، فالمفاهيم هي أدوات المعرفة، وإنّ وضوحها – بحسب عبد الله العروي – “لا يوصل بالضرورة إلى إدراك الواقع، لكن، على الأقل، تخلّص الباحث من التساؤلات الزائفة. وما أكثر التساؤلات الزائفة في ميدان نقد الذهنيات”. فبدلًا من تقديس المفاهيم أو رميها بالشيطنة، يكون إدراكها ووعي علاقاتها وتداخلاتها خطوة أولية ومهمّة في الطريق الصحيح.
تحاول نصوص الكتاب استكشاف الأبعاد الأيديولوجية في بعض نصوص المنتج الثقافي السوري المعاصر، ونقدها، مع التركيز على إيضاح التشابك الحاصل بين المعرفة والأيديولوجيا. وكانت مقدمة الكتاب موفّقة في محاولة بناء علاقة منطقية، عقلانية، بين المعرفة والأيديولوجيا، إذ أكّدت وجود التشابك بينهما، بحكم التداخل، على الأقل، بين القيمة والواقعة أو بين التقييم والوصف. كذلك، أشار الدكتور حسام أيضًا في مقدمته إلى أنّ المعرفة لا تقتضي الحياد بالضرورة، أو في الأحرى أقرّ بغياب معرفة إنسانية حيادية أصلًا، من حيث المبدأ، خصوصًا في ما يتعلّق بالشؤون السياسية، لكنّ هذا لا يعني، بحسب ما يقول، أنّ تلك الاستحالة تفضي إلى استحالة بلوغ (درجةٍ ما من) الموضوعيّة، على اعتبار أن الموضوعية سمة للمعرفة، ناقدًا أولئك الذين يضعون تعارضًا قطبيًا بين الذاتية والموضوعية، أو بين الأيديولوجيا والمعرفة الموضوعية، وكثّف رؤيته في الحصيلة بقوله إن “المعرفة بدون أيديولوجيا عمياء، والأيديولوجيا بدون معرفة جوفاء”.
هي مقاربة منطقية، ومشروعة، تلك التي تسعى لتصوّر علاقة إيجابية، غير معيقة، على الأقل نفعيًّا، بين المعرفة والأيديولوجيا، تُعرف فيها حدود كلٍّ منهما نسبيًا في لحظة ما، وتجاه موضوع محدّد. لكن لا بدّ من الانتباه إلى بعض المحاذير في هذا السياق؛ من جهة أولى، من المهمّ النظر إلى الأيديولوجيا كما تتبدّى لا كما نريد لها أن تتبدّى، بمعنى أن ما يبدو سهلًا ومغريًا ومنطقيًّا على مستوى التنظير، قد لا يبدو كذلك في المستوى السياسي. ومن جهة ثانية أرى أن المشكلة الرئيسة، في السياسة السورية السائدة مثلًا، لا تكمن في نفي هذا التداخل أو التشابك بين طرفي هذه الثنائية بل في ضمور المعرفي وتضخّم الأيديولوجي، ولا أقصد هنا الحضور الكثيف للأيديولوجيات الكبرى فحسب؛ الإسلامية أو اليسارية أو القومية، بل أيضًا الأيديولوجيات الأخرى الأضيق أو الأكثر محلية، بما فيها أيديولوجيا اللاأيديولوجيا؛ تلك التي يُعلن أصحابها براءتهم من الأيديولوجيا، ويحاربونها، لكن انطلاقًا من، ووفق، تصورات أيديولوجية أكثر سطحية. أُضيف إلى ذلك أنّ الأيديولوجيات الكبرى في سورية بأنماطها كافة لا تجد رموزًا أو أقطابًا أيديولوجية أو فكرية ممتلئة تتحدث باسمها وتدافع عنها، وتُرك هذا الحيز لشخصيات تُعلن انتماءها إلى هذه الأيديولوجيات لكن بمعرفة سطحية بها، ما أدّى إلى اختزالها على أيديهم بمجموعة من الشعارات، وتقديس بعض الكلمات ورجم أخرى بالشيطنة. ومن جهة ثالثة، هناك نمط مهيمن من الوعي الأيديولوجي لكن من دون الارتكاز على أيديولوجيا محدّدة أو واضحة المعالم، أي هناك مقاربات أيديولوجية شائعة للظواهر والأشياء لا تستند إلى أيديولوجيا معروفة، ولذلك قد يكون استخدام مفهوم “الوعي الأيديولوجي”، في هذا السياق، أكثر دقة من استخدام مفهوم “الأيديولوجيا” بصورة عامة.
يصبح والحالة هذه من الضرورة الوعي بقطبي هذه الثنائية من أجل ألّا يصب سعينا لبناء تصوّر لعلاقة بناءة بينهما في إطار تلفيقي. وقد قدّم الدكتور حسام في مقدمة كتابه، وفي بعض ثنايا نصوصه، ملامح كلٍّ من المعرفة والأيديولوجيا. مع ذلك، أودّ هنا تكثيف رؤيتي للمفهومين، واستكشافهما في العمل السياسي؛ ففي السياسة تظهر جيدًا ميزات وخصائص كلٍّ من المعرفة والأيديولوجيا، والتشابك والتداخل في ما بينهما، إضافة إلى مساحات التلاقي الممكنة أو المحتملة وأحياز التنافر والتضاد بينهما.

(2)
الحقيقة في المعرفة ذات طابع تواصلي، مفتوحة الآفاق، خاضعة للشك وإعادة النظر فيها باستمرار بحكم تطور المعرفة البشرية عبر الزمن، وتعدّد طرائق البحث وزوايا النظر، والتغيرات الدائمة في الواقع، وعلاقات التأثير والتأثر التبادلية والتفاعلات المستمرة بين البشر والظواهر والأشياء، وهي لأجل ذلك حقيقة نسبية ولحظية، فيما الحقيقة في الأيديولوجيا ثابتة ومستقرة ومتكرِّرة، عقل فراغي دينامي في المعرفة، وخطي جامد في الأيديولوجيا.
تدّعي الأيديولوجيا النقاء والولادة بلا مقدمات، وتنفي تأثّرها بغيرها من المنظومات الفكرية، لا شيء قبلها ولا شيء بعدها، لا في الماضي ولا في الحاضر، وتقدِّم نفسها بلبوس إيماني، وترفع حقائقها إلى مرتبة المقدس، وتنكر حقّ الاختلاف معها تحت طائلة التكفير أو التخوين أو الهرطقة والانحراف عن العقيدة القويمة. وتشكِّل الأيديولوجيا لأصحابها وسائد مريحة تمنع التفكير وتوفِّر لهم الطمأنينة وراحة البال وتصيبهم بالكسل الفكري، وتغلق آفاق الإبداع والتجديد فلا يتولّد من الأيديولوجيا أفكار جديدة لأنّها مصمّمة بطريقة تؤدّي إلى إعادة إنتاج نفسها، واجترار مقولاتها.
أصبح (اللايقين) أحد المبادئ السائدة في المعرفة اليوم، ويُعبّر عنه بتعابير أخرى؛ مبدأ عدم التأكّد، مبدأ اللاحتمية، مبدأ عدم التحديد أو اللاتعيين أو اللاتحقّق، وهو مبدأ متأصِّل في العالم اللامتناهي في الصغر. ويتلخّص في أنّ الإنسان لا يستطيع معرفة أو قياس كلّ شيء بدقّة كاملة، بل إنّ هناك قيمة، وقَدرًا مُعيَّنًا لا يُمكن قياسه، أو معرفته؛ لا توجد طريقة يمكن من خلالها الوصول إلى معلومات دقيقة عن مكان الجسيمات ما دون الذرية وسرعتها في آن واحد، وهذا دليلٌ على محدودية قدرتنا على القياس، وعلى أنّ مبدأ السببيّة الحتميّة أمرٌ يستحيل حدوثه. وقد توصّل فيرنر هايزنبيرغ (1901-1976) إلى هذا المبدأ في عام 1925، وتسبّب بشيءٍ من القلق في الأوساط العلمية، إلى درجة أنّ أينشتاين قال فيه “إنّ عقلي لا يستطيع أن يتصوّر أنّ الله يلعب النرد بهذا الكون”. لقد ارتكزت الفيزياء الكلاسيكية على مبدأ الحتمية، لكن مع التطور العلمي (نظرية الكوانتم) تخلّى الفيزيائيون عن النظرة الحتمية إلى الطبيعة. الكون ليس أغرب مما نعتقد فحسب بل هو أغرب مما يمكن أن نعتقد كما يؤكِّد هايزينبيرغ.
وبهذا تكون المعرفة فضاء الإمكانات والاحتمالات، أي فضاء الحرية، فيما تزخر الأيديولوجيا باليقينيات والحتميات، وبتقييد الحرية بالأحكام القطعية والنهائية على الأفراد والجماعات والحوادث والظواهر. إذا كانت العلوم الفيزيائية والرياضية قد أطاحت فكرة اليقين، وأعادت النظر في البديهيات العقلية كلها، وطالها الشك في يقينية حقائقها العلمية، فلا يغدو مقبولًا أن تتمسك الأيديولوجيات بيقينياتها وحتمياتها.
تنظر المعرفة إلى الإنتاج الفكري للبشرية في كليّته، وتهتمّ بالخطوط الواصلة بين الثقافات والأديان والأيديولوجيات والفلسفات، ومن ثمّ تستطيع أن ترى المشتركات والتقاطعات والتأثير المتبادل في ما بينها، ما يجعلها بعيدة من التعصب والانغلاق، ومنفتحة على التجديد والإبداع، وذات طابع كوني وإنساني. ما كان ماركس ليقدِّم ما قدمه من دون الاعتماد على ما أنتجه هيجل، ولا يمكن إلّا أن نرى تأثير المسيحية في إنتاج هيجل، وفي مجمل الفكر الأوروبي، وأن نلاحظ اشتراك الأديان السماوية في مجموعة من المرتكزات والمبادئ الأساسية. في حين أنّ الأيديولوجية تهتمّ بإظهار نفسها أنّها على قطيعةٍ تامةٍ مع ما سبقها، وكأنّها هبطت فجأة من السماء، وأنّها ختام المعرفة إلى الأبد، وهي لا تستطيع أن ترى المشتركات في البشر أو الأشياء أو الظواهر الأفكار، إنها -ببساطة- لا تستطيع أن ترى إلّا نفسها. إلى جانب الاهتمام بالخطوط الواصلة، تهتمّ المعرفة أيضًا، وفي الوقت ذاته، بالخطوط الفاصلة، على اعتبار أنّ “كل فصل هو وصل، أو من أجل وصل”، كما يقول إلياس مرقص، فالانفصال والانقطاع لا ينفيان التشارك والترابط والتآثر.
تنشغل الأيديولوجيا بتقويم الأيديولوجيات الأخرى، وبتبويبها وترتيبها استنادًا إلى قاعدة “الأفضل والأحسن والأنقى”، على الرغم من أنّ الأيديولوجيات جميعها تشترك بجملة من العناصر الأساسية، لعلّ أهمها هو منهجية إنتاجها لحقائقها المطلقة، وتختلف في مستوى الشعارات والمقولات والطقوس والشكلانيات. وبناءً عليه، تهتمّ الأيديولوجيا بتصنيف معتنقيها إلى معسكرات استقطابية متقاتلة، وينتج من ذلك بالضرورة وهم الإحساس بتفوق الذات، وادّعاء المعصومية، والقناعة بكفاية الذات، وهذه كلها تشكل أرضية ملائمة للعنصرية والنظرة الدونية إلى الآخر أو التقليل من شأنه أو تكفيره وشيطنته ونسب الشرور كلّها إليه.
مع مرور الزمن، تكثر النواهي والمحرمات والممنوعات في الأيديولوجيا، ومن ثمّ يضمر فيها هامش حرية التفكير والتعبير أكثر فأكثر، ويصبح معتنقوها أسرى المقولات الجاهزة والنصوص المغلقة، فيما المعرفة لا تتوافق إلّا مع فضاء الحريات المفتوح، الحرية هي مضمون المعرفة، الحرية والمعرفة صنوان. لذلك، تحتفي المعرفة بالتفكير النقدي، وبالانفتاح على احتمالات وآفاق جديدة بصورة مستمرة، بينما تحفل الأيديولوجيا بالتصورات والرؤى المطلقة والنهائية.
تحتفي المعرفة بالإنسان/ الفرد لأنّ مضمونها الجوهري أصلًا هو الحرية، بينما تسجن الأيديولوجيا أفرادها في صور كتليّة جماعية نمطية، تقليدية واجترارية، بحكم غياب الحرية والتفكير النقدي؛ يفكِّرون بالطريقة ذاتها، يتفاعلون مع الظواهر والأشياء بالإيقاع نفسه، ويتصرفون أحيانًا كالآلات، وليس غريبًا أن تجعلهم يمارسون الطقوس والعادات الشخصية عينها، نافية عنهم هواجسهم ورغباتهم واختلافاتهم وتمايزاتهم وذواتهم وفردانيتهم وفرادتهم، وفي الحصيلة إنسانيتهم، ما يعني أنّ نفي الحرية لا بدّ أن يقود إلى إلغاء الفرد/ الإنسان. إنّ مركزية الإنسان/ الفرد في المعرفة تسمح بتأكيد الطابع الكوني، الإنساني، العالمي للمعرفة، في مقابل الطابع الضيِّق والحصري للأيديولوجيا، ولهذا تشدِّد الأيديولوجيا كثيرًا على الخصوصية، وتضعها دائمًا في مواجهة الكونية، وتغرق في التقليد والمحاكاة والقياس والاجترار والتكرار.
صحيح إنّه لا توجد معرفة موضوعية كليًا، لأن الذات “المفكِّرة” تتدخّل في كلِّ معرفة بدرجة ما، لكن في الأيديولوجية تتماهى الذات بالموضوع أو ينحلّ الموضوع في الذات، ما يعني غياب أي حدود فصل بينهما. في المعرفة لدينا دائمًا علاقات فصل ووصل بدرجات متفاوتة تتوقف على الذات نفسها، ما يقلِّل من تدخّل الرغبة والشعور والانحياز بدرجات متنوعة في قراءة الواقع السياسي، وتُوضع احتمالات ومسارات وسيناريوهات عديدة تسمح بتحليل الفرص والمخاطر، وتقلِّل من المفاجآت والخسائر، أي تتفاعل الذات مع موضوعها بإدراك أوسع وأشمل، ما يعني انفتاح المعرفة بالضرورة على خيارات أكثر عقلانية، بينما تدخل الأيديولوجيا غمار الموضوع مسلّحة بشعارات ومقولات جاهزة سلفًا.
وفي مقاربة أخرى، هناك أحكام قيمة وأحكام واقع في المعرفة والأيديولوجيا على حدٍّ سواء، لكن مع وجود اختلاف هو أنّ جوهر المعرفة، بحسب ما يرى جاد الكريم الجباعي في مقاربات عديدة، لا يتمثّل أساسًا بمضمون هذه الأحكام أو النتائج أو المقولات بل بالمنهج أو طريقة التفكير، ومن ضمنها منهج أو طريقة أو آلية إنتاج الأحكام ذاتها، وطرائق نقدها ونفيها وتجاوزها وتجديدها. في المعرفة تكون المناهج والطرائق متغيِّرة، والأحكام أيضًا متغيِّرة، بتغيّر الواقع والتجارب وتراكم المعرفة. بينما في الأيديولوجيا لا توجد مسافة فاصلة بين الطريقة والأحكام؛ فطريقة التفكير جزء مندمج بالأيديولوجيا ذاتها، ومن ثمّ تكون مبادئ وطرائق إنتاج الأيديولوجيا ثابتة، والأحكام الناتجة قطعية ونهائية. الأيديولوجيا غير مستقلة أيضًا عن شروط إنتاجها، فهي إما أن تُنتج، وتعمل، بدلالة الأهداف والآمال والطموحات أو بدلالة مثال أو عصر “ذهبي” في الماضي، إما بدلالة المستقبل المتخيَّل أو بدلالة الموروث الثقافي، وفي الحالتين تشكل قناعًا يحجب الواقع.
لا يمكن ادّعاء البراءة من الرؤية الأيديولوجية للواقع بالإكثار من الحديث عن اعتماد الرؤية العقلانية أو الواقعية للواقع، لأنّ الأيديولوجيا ليست مجرد قميص نرتديه ونخلعه عندما نشاء، وبمجرد التخلّص منه نتحوّل إلى عقلانيين وواقعيين؛ فالأيديولوجيا تتخلّل إلى تفاصيل الحياة وتعشِّش في جزئياتها، وتفرض نفسها ليس على مستوى الوعي فحسب بل اللاوعي أيضًا. ليس من السهولة مغادرة تلقينات وتعاليم وأوامر ونواهي وطقوس الأيديولوجيا حتى لو أعلنا البراءة منها. ألم يكن كثيرٌ من الأداء السوري المعارض لنظام الحكم مثلًا مطابقًا لأداء ونهج النظام نفسه، على الرغم من الإعلان المتكرِّر عن القطيعة مع ثقافة النظام؟! في كثير من الأحيان، والعديد من المحطات، لم يكن هناك اختلاف بين الطرفين إلّا في حيِّز الشعارات، وحتى هذه الأخيرة لم تكن، في منطوقها، وتصميمها، ونهجها مختلفة عمّا أنتجه النظام إلّا ربما على مستوى استبدال الأسماء. ما يعني أنّ أيديولوجيا نظام الحكم متغلغلة في الأرواح والأنفس، ولا يكفي تكرار إعلان القطيعة معها لنقول إننا غادرنا ساحته الأيديولوجيّة.
الواقع في المعرفة معقّد ومركّب ومفتوح ولا نهائي وتعدّدي، ولا يمكن القبض عليه كليًا أو إحاطته، فالواقع الذي يُمكننا صوغه في كلمات ليس أبدًا الواقع نفسه، بحسب هايزينبيرغ. في المعرفة ترى كل ذات “مفكِّرة” جزءًا من الواقع في لحظة ما، من زاوية ما، بطريقة مختلفة عن رؤية الذوات الأخرى، وهذا الجزء ذاته متغيِّر بالضرورة. والمعرفة أو الفكر ليسا انعكاسًا مباشرًا وبسيطًا للواقع، لأنّ الواقع، بحسب إلياس مرقص، “ليس إلّا مستوى أول في المعرفة”. الواقع لا يُختزل في البصر، الواقع في النظر، ممكنات الواقع مثلًا جزءٌ عضويٌّ من الواقع ذاته، والماضي أيضًا جزء من الواقع، لأن الواقع/الحاضر هو لحظة أصلًا، ما قبلها هو الماضي، وما بعدها هو المستقبل، لذلك تكون الرؤية الواقعية التي تنظر إلى الواقع بوصفه مرجعًا وحيدًا لها زائفة ومضلِّلة.
تتحدّث الأيديولوجيا غالبًا عن واقع موجود في الذهن أو واقع افتراضي لا عن الواقع الموجود، عن واقع يرضخ للأيديولوجيا، أو في الأحرى عن أوهام وتصورات مسبقة، لا عن الواقع الفعلي، أو ترى الواقع القائم بعينين أيديولوجيتين، ولذلك يأتي الواقع دائمًا في الأيديولوجيا ليصادق على تعاليمها ومقولاتها، لأنّ الأيديولوجيا لا تخطئ كما يرى معتنقوها، وهنا لا يمكن نفي المصالح والانحيازات والتبريرات في خلفية الرؤية. ليست كلُّ رؤيةٍ تدّعي الواقعية واقعيةً فعلًا. رؤية الواقع من دون توسّطات الأيديولوجيا ليست واردة دائمًا، رؤية الواقع (كما هو) ليست مسألة سهلة، بل هي غير ممكنة أصلًا، أما الممكن فهو المقاربة الجزئية للواقع في لحظة ما، ومن زاوية ما، وبطريقة ما، ومن ذات “مفكِّرة” ما. ما نلاحظه ليست الطبيعة نفسها، وإنما الطبيعة معرّضة لأساليبنا في التفكير، بحسب هايزينبيرغ أيضًا.

(3)
لا يمكن لأيّ سياسة أن تعيش بلا أيديولوجيا بهذا القدر أو ذاك، ولا تكمن المشكلة في الحضور الكثيف للأيديولوجيا في ساحة السياسة فحسب بل في ضمور الحيز المعرفي أساسًا، لأنّ حضور المعرفة يمكن أن يُعقلن الأيديولوجيات بدرجات متفاوتة، ما دام وجودها قدرًا لا مفرّ منه، في السياسة، وفي حياة البشر عمومًا. يمكننا اكتشاف دور الأيديولوجيا ووظائفها وتجلياتها وآثارها في الحقل السياسي في مستويات عديدة.
تؤدّي الأيديولوجيا وظائف سياسية عديدة؛ جذب الأنصار وتجميعهم وتعبئتهم، تبرير أداء سلطات الأمر الواقع ومصالحها، تمويه أو إخفاء أو حجب الواقع، وأحيانًا تكون إحدى آليات إدارة الصراع ضدّ الخصوم والأعداء، ويمكن لها أن تؤدّي دورًا في مساعدة الأفراد في مواجهة الصراعات الداخلية والاغتراب والعزلة، وتساهم أيضًا في خلق الارتباط الوجداني بين الأفراد وتنمية شعورهم بالولاء وتحقيق الانتماء وبناء الهويات، وقد تدمجهم في جماعة أو حزب أو حركة ما.
يرى ماركس وأنجلز في كتاب “الأيديولوجيا الألمانية” أنّ الأفكار السائدة في كلِّ حقبة هي أفكار الطبقة الحاكمة، وبعبارة أخرى إنّ الذين يملكون السلطة والقوة المادية هم الذين يحدِّدون القوة الروحية السائدة، وهذه الأخيرة تكون قناعًا لمصالح سياسية أو اقتصادية، وغالبًا ما تكون مسؤولة عن تقديم رؤية زائفة للواقع ومضلِّلة للبشر. فالمضطهد في حاجة نفسية إلى تمويه أو إخفاء أو تجميل واقعة الاضطهاد وغياب الحقوق، لذلك تؤدّي الأيديولوجيا وظيفة تبرير طرائق توزيع المصالح الاقتصادية وشرعنة الهيمنة السياسية للنخبة الحاكمة أو لرجال الدين أو لنخبة الاقتصاد والأعمال أو للنخبة الممثِّلة للأيديولوجيا. ولذلك، يرى ألتوسير أنّ الأيديولوجيا ليست معرفة خاطئة؛ لأنّها قبل كل شيء ليست معرفة، ولأنّ وظيفتها المجتمعية/ السياسية تفوق أهمية وظيفتها المعرفية.
من جانب آخر، هناك ترابط أكيد بين ادّعاء امتلاك الحقيقة واليقينية القطعية من جهة، والاستبداد السياسي أو الاستبداد الديني من جهة أخرى. وثمة ترابط أيضًا بين الثبات والانغلاق والأحادية من جهة، وممارسة الكراهية والتعصب والعنف في السياسة من جهة أخرى. في المقابل، ثمة صلة وثيقة بين الحقيقة النسبية والتعدّدية واللايقين واللاحتمية من جهة، وممارسة السياسة بوصفها ميدان التشارك الحر في إدارة الشؤون العامة، وإدارة الاختلاف، وخلق التوافقات، وحلّ التعارضات سلميًا بعيدًا من أساليب السحق والنفي والعنف. لا تتقبل المعرفة أن تكون أداة للسياسة، وترفض اختزالها في أيديولوجيا أو عقيدة حزبية، لأنّ هذا يجعل مهماتها تنحصر في الدفاع عن حقائقها وتبرير أفعال معتنقيها ومقارعة خصومها والدعاية لنفسها.
أدّت كثافة اللحظة السياسية في سورية، خلال العقد الفائت 2011-2021، إلى حالة استقطابية متخمة بالانحيازات والمشاعر، فكانت المقاربات، في معظمها، أيديولوجيّة، وضمرت المعرفة في السرديات التي تصف وتحلِّل ما حصل ويحصل، وفي الإجابات عن أسئلة الواقع وإشكالاته. يُضاف إلى ذلك الوعي العام الأيديولوجي الذي تكوّن في بيئة الاستبداد، أي وعي البشر العاديين الذين اندرجوا في النقاش العام، وقاربوا حوادث الواقع ومشكلاته تحت هاجس الأخطار المحدقة بهم، والمعاناة التي تعرّضوا لها، ليصبحوا هم من يصنعون الرؤى والسياسات في ظلّ غياب نخب سياسية وثقافية عارفة وشجاعة ومنظمة، وهيمنة نخب شعبوية ومنقادة وقليلة المعرفة.
ويمكن اكتشاف تجليات هذا الوعي الأيديولوجي في محطات ومواقف عديدة؛ مثلًا، سيطرت فكرة قاصرة، أيديولوجية في العمق، على الوعي العام، ووعي القوى السياسية، وكثير من المثقفين، خلاصتها تأجيل نقد الخيارات والتصورات المهيمنة على الساحة السياسية لمصلحة الإعلاء من شأن الشعارات و”العمل” الذاهب في اتجاه إسقاط النظام السوري، لاعتقادهم أنّ كلّ نقدٍ في هذا السياق يصبّ في مصلحة النظام، وهو ما يعني ضمور المعرفة والتفكير النقدي في مقابل هيمنة الأيديولوجيا. وأيضًا، عندما قرّر بعض السوريين تأسيس نقابات مدنية جديدة ألحقوا كلمة “الأحرار” باسم كل نقابة، مثل “نقابة المحامين الأحرار” وغيرها، وهو نمط تفكير أيديولوجي يعتقد أصحابه في العمق أنّ تغيير الأسماء يؤدّي إلى تغيير العقليات وأنماط التفكير تلقائيًا، أو أنّ التشديد على الكلمات يغيِّر الواقع بصورة سحرية.
وإذا خرجنا من ساحة النصوص الأيديولوجية الكلاسيكية إلى ساحة العمل السياسي سنكتشف أنّ المعضلة أكبر وأعقد؛ سنجد وقتها حضور الأيديولوجيات الكبرى، الإسلامية والقومية واليسارية والليبرالية، بهيئات ممسوخة لا تفتقد إلى أوليات الوعي المعرفي فحسب بل أيضًا إلى البديهيات المعروفة في كلِّ أيديولوجيا منها، ليتحول الحقل السياسي إلى مجرد ساحة تتلاطم فيها المقولات والشعارات الأيديولوجية بلا هدىً.

(4)
تمثِّل ثنائية المعرفة والأيديولوجيا إشكالية حقيقية في تاريخ الفكر والممارسة السياسية في المنطقة العربية، وما زالت العلاقة بينهما بين أخذٍ وردٍّ، علاقة غير واضحة فصلًا وتداخلًا، عدائية أحيانًا، واندماجية في أحايين أخرى، وتوفيقية أو تلفيقية في محطات أخرى. ثنائية المعرفة والأيديولوجيا علاقة مركبة ودائمة التداخل، وليس من الحكمة التفكير في إمكان الوصول إلى حدٍّ فاصلٍ ونهائيٍّ بينهما، لأنّ ما تقدِّمه الذات، أيّ ذات، في لحظة معينة على أنه خالٍ من الأيديولوجيا ربما يكون غير ذلك بالنسبة إلى ذواتٍ أخرى، أو ربما تكتشف الذات نفسها أنّها كانت تسبح في بحر الأيديولوجيا من دون أن تدري. على سبيل المثال، هناك رؤية شاعت بعد دخولنا عصر العولمة، ترتدي لباسًا معرفيًّا، كثيرًا ما نظرت إلى الدين، في لحظات مختلفة، بوصفه جزءًا من موروث الماضي الذي سينتهي حضوره بحكم التقدم العلمي والتقني عاجلًا أم آجلًا، لكن الواقع كان يأتي دائمًا ليقول غير ذلك؛ هذه الرؤية تستند إلى الرغبة، وتفتقد إلى إدراك الأبعاد الشاملة والعميقة لظاهرة الدين، وهي في الحصيلة أقرب إلى الأيديولوجيا منها إلى المعرفة.
من غير الممكن في مجال دراسة الواقع السياسي أن تتّخذ العلاقة بين المعرفي والأيديولوجي منحىً واضحًا من دون تداخل، فهي مركبة في عقل الفرد الواحد والنص الواحد. لا يمكن عدّ النصوص التي تتحرّى الموضوعية والحياد خالية من أيّ تدخلٍ أيديولوجي لمجرد اعتمادها على أدواتٍ معرفية؛ فلا ينبغي لنا نفي احتمال تسلّل الأيديولوجيا إلى أيّ نصٍّ معرفيّ أو إلى نصٍّ يتحدث بلغة المعرفة ويستخدم أدواتها ومفاهيمها، ما يعني أنّنا جميعًا يمكن أن نمارس انحيازاتنا الأيديولوجية، سواء أكنّا واعين أم لا، في الوقت الذي نتحدث فيه بلغة المعرفة.
في المنطقة العربية، ومنها سورية، لا نستطيع إلّا أن نقرّ بالحضور المتضخِّم والمهيمن للأيديولوجيا في مقابل الضعف أو الفقر المعرفي من جهة أخرى في الفكر العام السائد؛ هناك كمٌّ هائلٌ من الانحيازات والشعارات والمواقف السياسية التي يبديها الجميع في الحقل العام، وتُقدَّم بصورة حقائق مثبتة. ولا شكّ في أنّ هناك عوامل ذاتية عديدة تقف وراء ذلك، لكن لا نستطيع أن ننكر أيضًا وجود العوامل الموضوعية التي تتمثل بالسياقات التاريخية والسياسية التي أثرت بشدّة في وعي النخب السياسية والثقافية، وفي الوعي العام. مثلًا، لا شكّ في أنّ اتّساع مساحة المعرفي على حساب الأيديولوجي منوطٌ، في أحد جوانبه، بالاستقرار النسبي للهوية أساسًا، لأنّ الذات غير المستقرة على مستوى الهوية ستظل محكومة بهاجس أيديولوجي قوامه الدفاع عن نفسها في مواجهة الآخر، ولا بدّ أيضًا أن يكون لأنظمة الحكم الاستبدادية دورٌ رئيسٌ في زيادة رصيد الوعي الأيديولوجي وتنمية الخرافة والتقليد والتفكير السحري، وأخيرًا هناك دورٌ مؤكّد لأنظمة التعليم والتربية السائدة التي تعتمد الحفظ والاستظهار والتلقين، وترتكز على الامتثال والطاعة والمحافظة بوصفها فضائل لا غنى عنها.
مخاطر الأيديولوجيا لا تمنعنا من الاعتراف بأنّ الأيديولوجيا حاضرة في أي ثقافة، وأنّه لا يمكن تحرير الوعي الإنساني من أثر الأيديولوجي بصورة كليّة، وأنّ الأيديولوجيا ستبقى ما بقي الإنسان موجودًا؛ لأنّها تجيب حكمًا عن حاجات وتساؤلات فردية أو جماعية. نستطيع أن نجد في كتابات الفيلسوف البولندي كولاكوفسكي (1927-2009) تعبيرًا يوافق ذلك حينما كتب يقول “الشعار الذي يدعو إلى التحرّر التام من الأيديولوجيا تخيّل ساذج، والذين يصوِّرون لأنفسهم أنّهم نجحوا في ذلك يقعون ضحية وهم، فالمرء الذي يطالب بإلغاء الأيديولوجيا، وإزالتها من الوجود، لا بدّ له من تقييمها قبل ذلك، وهذا التقييم يشكل فعلًا أيديولوجيًّا”. لذلك يمكن القول إنّ فكرة تخيّل العالم أو الحياة البشرية بلا أيديولوجيا هي فكرة أيديولوجيّة أيضًا، ووهمٌ جديدٌ يُراد إسباغ الصفة المعرفية عليه.
لكن من المنطقي، والطبيعي، أن نتوقّع حدوث تغيّر في أشكال الأيديولوجيا أو في وظائفها أو في درجة حضورها، وربما انتهاء بعضها نسبيًّا، ونمو أشكال أخرى منها، بحسب تغيرات الواقع وحاجات البشر ومصالحهم وتجاربهم، مع إدراكنا أنّ الأيديولوجيات لا تموت بالسكتة القلبية. تمتلك الأيديولوجيا إذًا مشروعية ما، هي بطريقة أو أخرى مشروعية الحاجة أو المصلحة، وهذه الأخيرة واقع موضوعي معروف في الاجتماع البشري، لكنّ هذه الحاجة أو المصلحة متغيِّرة بتغيّر البشر، وعلاقاتهم الاجتماعية، وأحوالهم، وصراعاتهم. الأيديولوجيا، بهذا المعنى، وعيٌ بمصلحة ما، ونظامٌ فكري لشرعنة هذه المصلحة وتبرير الدّفاع عنها.
في كثير من الأحيان تكون مقاربة الأيديولوجيا من باب معرفي، لاكتشاف تناقضاتها أو خطلها أو لا صدقيّتها، غير كافية، وربما يكون الباب المفتوح أو الإيجابي هو البحث فعلًا في مدى فائدة أو نجاعة المصلحة التي تحملها هذه الأيديولوجيا في لحظة ما. أي لا بدّ من الابتعاد عن النظرة الاحتقارية إلى ما هو أيديولوجي، وعدم الاكتفاء بالنظر إلى الأيديولوجيا من زاوية معرفية، والذهاب في اتجاه مقاربة اجتماعية سياسية، شاملة وعميقة، للأيديولوجيا. وربما من المفيد، في السياق السياسي خصوصًا، تحرير مقارباتنا للأيديولوجيا من الأحكام المسبقة، كما يرى مارتن سيلجر (1976)؛ فالأيديولوجيا لا جيدة ولا سيئة، ولا صادقة ولا كاذبة، ولا منفتحة ولا مغلقة، ولا محرِّرة ولا إكراهية، وإنّما تستطيع أن تكون كل هذه الأشياء.

حازم نهار

كاتب وباحث سوري في الشؤون السياسية والثقافية، له إسهامات عديدة في الصحف والمجلات ومراكز الدراسات العربية، باحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، نشر عددًا من الكتب السياسية والثقافية، منها “مسارات السلطة والمعارضة في سورية” الذي صدر عن مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، و”سعد الله ونوس في المسرح العربي”، وله عدة ترجمات، منها: سورية: الاقتراع أم الرصاص لكاريستين ويلاند، سورية: ثورة من فوق لرايموند هينبوش، بناء سنغافورة لمايكل دي بار وإزلاتكو إسكربس، تشكيل الدولة الشمولية في سورية البعث لرايموند هينبوش، سورية الأخرى: صناعة الفن المعارض لميريام كوك، لعبة الانتظار لبينت شيلر، أسّس وأدار مؤسَّسات بحثية وثقافية ومدنية عديدة، رئيس تحرير مجلة (رواق ميسلون) للدراسات.

مشاركة: