Search

كتاب نظام التفاهة

اسم المؤلف: آلان دونو

ترجمة: مشاعل عبد العزيز الهاجري

مراجعة: فادي كحلوس

الناشر: دار سؤال للنشر

مكان وتاريخ النشر: بيروت 2020



محتويات الكتاب

مقدمة

الفصل الأول: “المعرفة” والخبرة

الفصل الثاني: التجارة والتمويل

الفصل الثالث: الثقافة والحضارة

الفصل الرابع: ثورة – إنهاء ما يُضّر بالصالح العام

خاتمة: سياسات الوسط المتطرف


من المنصف القول إن كتاب “نظام التفاهة” ينتمي إلى المدرسة التفكيكية، أو التشريحية إن جاز التعبير؛ تلك المدرسة التي تُعنى بتناول إشكالية ما، ظاهرة ما، حالة ما، تناولًا واقعيًا وموضوعيًا، ثم تقوم بتقصي أسبابها الأولية ورصد مرجعياتها الجذرية، كما تبحث في عواملها ومفاعيلها ومرتكزاتها، وتدقِّق في نتائجها، ورشوحاتها، واستطالاتها. فلا يغفل الكاتب “آلان دونو” -بحكم انتمائه إلى تلك المدرسة- أسًا من أسس “نظام التفاهة” أو يهمّش جزئية من منظومته، فهو كاتب راديكالي، وينصحنا بأن نكون كذلك: “كن راديكاليًا”.

إن الغوص في الأعماق المعقدة لنظام التفاهة، وتبسيطه وتبيانه، هو فن “التشريح” الذي أتقنه الكاتب (دونو)، وعبّر عنه في كل فصل من فصول كتابه الأربعة، سواءً بالخوض في الموضوعات الكبرى (المعرفة، التجارة والتمويل، الثقافة والحضارة، والصالح العام) أم من خلال تتبعه لحيثيات ذلك النظام -نظام التفاهة- عبر الآراء ودراسة الحالات، والقراءة في كل ما يدعّم أسئلة بحثه واستنتاجاته. وهذا ما يذكرنا -إلى حد بعيد- بكتب مشابهة، من حيث الانتماء إلى المدرسة التشريحية؛ ككتاب هشام شرابي (مقدمات لدراسة المجتمع العربي)، والذي يشرِّح فيه الكاتب المجتمع العربي، بدءًا من التربية داخل العائلة، وصولًا إلى هزيمة حزيران/ يونيو، كما يذكرنا -أيضًا- بمسرحية (ملحمة السراب) لسعد الله ونوس؛ والذي رسم لنا لوحة لمجتمعنا المفوّت من خلال عرضه للقشور التي نستر بها عوراتنا الأخلاقية والفكرية والاقتصادية والسياسية. نعم، إنها المدرسة ذاتها، باختلاف القضايا المطروحة للتناول. ولكنها تشترك في الحس أولًا، والمسؤولية تجاه الصالح العام ثانيًا، وتناول الجزئيات العيانية الكثيرة التي يشكل جمعها وتراصفها لوحة واسعة الامتداد ومتكاملة الأركان ثالثًا.

سيشعر قارئ هذا الكتاب، بمدى الأرق الذي عاناه الكاتب بسبب (نظام التفاهة) وقنوات التفاهة، والباحثين التافهين، والأشخاص التافهين، والمنظمات التافهة، والاقتصاد التافه، والمؤسسات والأكاديميات التافهة، هذا الأرق الذي يذكرنا بنفسه في كل جزئية من جزئيات تشكّل “نظام التفاهة”.

 

مقدمة الكتاب

تتناول مقدمة هذا الكتاب شروحات لمصطلح التفاهة ودلالاته، “الاسم الذي يشير إلى ما هو متوسط”، وكذلك مصطلح “نظام التفاهة”: “نظام يؤسس لوسط/ بيئة لا يعود فيه المُعتاد هو محض توليف مجرد يسمح لنا بالوقوف على كُنه الأمور، بل يصبح هو المعيار الذي نُضطر للخضوع له”. فالإشكالية التي يتناولها هذا الكتاب تتلخص بـ “لقد تبوأ التافهون موقع السلطة”.

يفنّد الكاتب “آلان دونو” مولدات وديناميات تَشكل هذا النظام -نظام التفاهة- ساردًا لسياقاته، فيقول: “ساهم تقسيم العمل وتصنيفه -اليدوي منه والفكري- في ظهور السلطة التافهة”. ويضيف: “إن إجادة كل مهمة لجعلها نافعة لمنتج نهائي، لا يعرف أحد ما هو، هي مسألة قد ساهمت في ظهور خبراء فارغين يهرفون بخطب جيدة التوقيت ومتضمنة لشذرات من الحقيقة، فيما يتم اختزال العمال إلى أدوات، لا يعدو فيها العمل الدائم مدى الحياة أن يكون محض وسيلة لضمان وجودهم ذاته”، و”فُقِدَت الحرفة (…) يمكن للناس بيع كتب هم أصلًا لا يقرؤونها”. وهذا ما يسميه الكاتب “عملًا منزوع الحيوية” حيث “يراه العمال باعتباره محض آلية لتأمين وجودهم نفسه”، وهذا ما يمثل “ضمان رأسمال لنموه”. ويضيف الكاتب: لقد تحولت الحرفة إلى وظيفة، وصارت كل وظيفة “وسيلة”. ويتابع: فالعمل يكون مجرد وسيلة بسيطة عندما نقوم بتعييره بشكل يصبح معه كذلك… إن جعل أي فعل تمثيلًا لوَسَطه/بيئته الأبسط -في حال ما إذا كان ذلك شيئًا عامًا وإجباريًا- هو أمر يحيل المجتمع ككل إلى التفاهة”.

يشير الكاتب في معرض حديثه حول أنموذجات المنتجات التافهة إلى فكرة أن “الجودة التقنية لازمة لإخفاء الكسل الفكري العميق”. كما يشير إلى “تطور” التافه الذي كان في الماضي “يتمثل في مخلوق منمّط، يستفيد من معرفته بالأخبار الداخلية والدسائس في أوساط ذوي السلطة لاستغلال كل موقف”. وعن زمننا الراهن يقول الكاتب: أما وقد أصبحوا جماعة مسيطرة؛ فإن تافهي العالم يقبضون على السلطة تدريجيًا، دون علم منهم، تقريبًا، لهذا الذي يفعلونه (…) التواطؤ والتآمر هي أشياء قد جعلتهم يتربعون على قمة المؤسسات. وبالعودة إلى السردية التاريخية لنظام التفاهة، يقول الكاتب: منذ صدور كتاب “مبدأ بيتر” -والذي لاحظ مؤلفاه التطور التدريجي للتفاهة- فإن الميل إلى إقصاء غير التافهين صار يتأكد بانتظام، ولكن الأمر قد وصل بنا اليوم إلى مرحلة تتعدى ذلك؛ لقد صارت التفاهة مطلوبة بالفعل ” كما أصبح -في المقابل- “على العمال الذين ينزعون إلى العمل المتقن وشعورهم الرفيع بالمسؤولية هو أمر يُنظر إليه باعتباره مشكلة”. لينتقل الكاتب ويورد تعاريفَ أخرى لنظام التفاهة، من مثل: “هو المصطلح الذي يشير إلى النظام التافه، الذي يتم نصبه كنموذج”، ليمسي تعريف التافه “هو من ينجو” و”التفاهة فرصة أفضل للنجاح”.

ينهي الكاتب مقدمة كتابه بالتطرق إلى الزيف الفارغ والاجترار الأبله اللذين ينتجان عن نظام التفاهة، فيقول: “هو إذن مجرد تقليد للعمل، فلا ينتج إلا نتائج موهومة، ليصبح الاختلاق قيمة في حد ذاته، وهكذا، فإن نظام التفاهة يقودنا إلى تسليم مَلَكَة الحكم السليم إلى نماذج اعتباطية مُسوق لها من قبل السلطة”، ويورد الكاتب اقتباسًا لعالم المنطق (الكساندر زينوفييف) يعزز فرضياته تلك: “إن التظاهر بالعمل لا يتطلب سوى نتيجة ظاهرية -أو بالأحرى محض إمكانية لتبرير الوقت المُنقضى، فالتحقق من النتائج وتقييمها إنما يتم من قبل أشخاص متورطين في هذا التظاهر، مرتبطين به، وذوي مصلحة في استمراره”.

الفصل الأول: “المعرفة” والخبرة

يتناول الكاتب في هذا الفصل، بدايةً، الواقع السائد للنخبة/الأكاديميين “متخصصون في مجالات معرفية فرعية متناهية الصغر، فاقدون للقدرة على التفكير النقدي، المهوسون بالتطور الوظيفي”. كما يتناول المشكلات الناجمة عن هذا الواقع السائد، والتي وصلت حدًا “تحولت به الثقافة إلى مجرد صناعة للترفيه”. ويحمّل الكاتب أعضاء هيئة التدريس في الجامعات والعاملين في الأقسام العلمية والمعامل الذنب والمسؤولية -بوصفهم النخبة- كونهم “هم من يقوم بتشكيل العالم الذي نعيش فيه وتحديده”. ويورد الكاتب على لسان (ماكس فيبر) تناولًا للتفاهة التي كانت الجامعة تغرق فيها “كان الزبائن هم الطلبة ومحتوى المقرر هو السلعة التي يُفترض أن تلاقي قبولًا لديهم (…) لقد أدى ذلك إلى إفساد العلاقة بالبحث العلمي”. ويرى الكاتب أن واقعنا الراهن -ما بعد فيبر بمئة عام- “ما عاد الطلبة مستهلكين للتدريس وللشهادات المقدمة في الحرم الجامعي، لقد صاروا هم أنفسهم سلعًا”، ويقول: “لقد ابتعدنا كثيرًا عن عملية المعرفة، أي العملية التي نكتشف بمقتضاها وعينا”، ويضيف: “إن الطريق نحو تحقيق الفكر صار مسدودًا”، و”وصارت التفاهة غالبة”.

تحت العنوان الفرعي: الكتابة على طريق الخراب، يتناول الكاتب “قواعد الكتابة الأكاديمية التي تنحدر بالطلبة الذين يُرغمون أنفسهم على الامتثال لها أثناء وجودهم في الجامعة”، وكيف “أصبحت الطُرز الخطابية تميل نحو الغموض”، وأنها “لا تعدو أن تكون محض كتابات تافهة”. ويقدم الكاتب شروحًا وتحليلًا لأسباب ذلك.

وتحت عنوان فرعي آخر “أن تلعب اللعبة”، يدلِّل الكاتب على مدى سوء النظام الأكاديمي في الجامعات، ويورد مثالًا على لسان عالم الاجتماع (أليكساندر أفونسو)، ويقوم المثال على مقارنة الأنماط المؤسسية للجامعة بتلك الخاصة بالجريمة المنظمة، فلعب اللعبة هو التدليس في سبيل إثبات ولائنا للمجموعة، وكيف أن ماهية اللعبة هذه “أقرب ما تكون إلى مجموعة من القواعد منها إلى ديناميات سلطة وضعها لاعبون يحاولون فرض قواعدهم على الآخرين”.

الفصل الثاني: التجارة والتمويل

لهذا الفصل من الكتاب سبعة عناوين فرعية: الاقتصاد الغبي، صُنع في الصين، الخبراء المُنقِذون، مرض المال، الاقتصاد الجشع، نهبٌ مُسيّر عن بعد، ونقابات العمال ضد الرفاق العالميين. يتناول الكاتب من خلالها، كيف “أن السوق قد فقد عقله حرفيًا”، وكيف أن هذا السوق “يعمل الآن من دون تدخلٍ من العقل البشري: إنه يُحَرّك من قبل خوارزميات تقوم بعملياتها خلال نانو ثانية/واحد على بليون في الثانية، وهذا أمر يمكن معه أن يتحقق الخطأ بطريق خارجة عن السيطرة (…) يمكن للخوارزميات أن تكشف عن عروض الشراء في السوق فتقوم من ثم بمضاعفتها خلال نانو ثوانٍ، بهدف السيطرة على ملكية الأسهم، ثم بيعها بسعر أعلى لأي من كان يرغب بها ابتداءً”. وإن الآلات الإلكترونية التي تقوم بتلك العمليات “قد تطورت بطريقة أسرع من قدرتنا على فهمها أو السيطرة عليها” وإنه “من المستحيل فهم ردة فعل السوق تجاه أي معلومة سياسية، لأن السوق ببساطة، لم يعد الآن موضوعًا خاضعًا للمعطيات الاجتماعية؛ لقد صارت العقلانية الاقتصادية مُدمجة في برامج الكمبيوتر التي يلقيها (الخبراء) في المقلاة، من دون معرفة محددة لما سوف يحدث بعدها لآلاف البليونات من الدولارات محل التعامل يوميًا”. وأنه “في سوق الأوراق المالية (…) الأسواق ليست سوى مسرح واسع للعمليات التي لا يسع المحاسبين البشريين فهم أي شيء فيها”.

يورد الكاتب أمثلة عديدة حول إمكانية “أي خطأ أن يرتب آثار وخيمة”، فعدة شركات خسرت ملايين الدولارات في دقيقة. ويخلص الكاتب إلى نتيجة مفادها: “إن هذه الخوارزميات لا تحمل أية قيمة لنا أو لاقتصادنا كأشخاص، إن كل ما تفعله هو أنها تساعد على تحديد قيمة الأسهم من خلال خداع بعضها البعض، مموهةً أنفسها، قائمةً بمناورات مشتتة للانتباه، أو غارقة قاع القِدر خلال أجزاء من الثانية”. وينوّه الكاتب -وعلى خلفية قراءته لهذه الاضطرابات القابعة في السوق- إلى “وقوع انهيارات مفاجئة لأسواق المال بطريق تجعل المواطنين مبهوتين إلى درجة لا يعودون يعرفون معها ما إذا كانت عقولهم تستطيع أن تعمل بسرعة كافية لكشفها”.

يشير الكاتب، أيضًا، إلى أن “البرامج المصممة لتثقيف الناس حول الاقتصاد، هي، وبذات الطريقة، تقصد إلى منعنا من إدراك أن هذا النظام هو في حالة تامة من الفوضى”، ويضيف: “يُطلب منا أن نصدق بأن هناك علمًا للاقتصاد يوضع موضع التطبيق في قرارات الأشخاص الذين نعتمد عليهم من ذوي السلطة، وأن الديموقراطية تعني جعل المواطنين شركاء: قادرين على إتقان مصطلحات هذا العلم ومبادئه الأساسية، ولكنهم غير قادرين على التصرف بموجبه بأي شكل من الأشكال، فلا يستطيعون إلا البقاء رهن محبسه”. وهذا ما يفسر -بحسب الكاتب- “الطبيعة المكثّفة للمبادرات القاصدة نحو تحقيق “الشعبوية” لهذا العلم”. يطرح الكاتب -هنا- سؤالًا ويجيب عليه “لماذا نكون ملجومين ثقافيًا عندما نواجَه بمواقف صادمة مثل هذا؟ لأنه لا يوجد مجال تتسيَّد فيه التفاهة بثقة مثلما تسود في ذاك المجال الذي نسميه الاقتصاد”.

في معرض تناوله لعنوان (الخبراء المنقذون) يقول الكاتب: “كلما تراجعت الأوليغارشية إلى عاداتها السيئة (الفساد، التدليس، والتفاهة) سارع (الخبراء) الذين يتقاضون رواتبهم منها إلى إنقاذها”، ويضرب الكاتب للعديد من الأمثلة في هذا الشأن، ومنها “قضية حكومة كيبيك المتعلقة بآرثر بورتر”.

حول (مرض المال)، يقول الكاتب: يضع المال ساترًا يخفي كل شيء. لقد فرض المال نفسه على التفاهة الحديثة كطريقة بحساب متوسط القيمة، بعد ما أصبح العلامة المفضلة للتوسط بين السلع، فهذه الوحدة للقياس المتوسط للقيم فرضت نفسها خلال التاريخ كناقل للتفاهة. ويتناول الكاتب (الدور الاجتماعي والثقافي للنقود) وهو ما اهتم به (سيميل) -فيلسوف وعالم اجتماع ألماني- في بداية القرن العشرين، وقد قاده ذلك فورًا “لدراسة الانحرافات التي تعززها النقود، لأن النقود التي تشهد كل هذه التوسطات، تصبح بذاتها الوسيلة التي تسمح لنا بالوصول لكل شيء”. ويضيف الكاتب: “أن تصبح منجذبًا إلى هذه الوسيلة من ضمن بقية الوسائل، هو أن تعتبر الوسيلة التي تقود للقيمة قيمة بحد ذاتها، وشيئًا فشيئًا أن تصبح منجذبًا إلى إحصاء للقيمة هو بحد ذاته غير شخصي، غير مهم، غير محدد، حيادي واعتيادي”.

يقول الكاتب: “بخلاف ماركس، أدار سيميل انتباهه إلى النتائج السكيولوجية الواقعة على الثقافة المُسيطر عليها من قبل المال كوَثَن رمزي، ومثل رأس المال، ولكن على مستوى سيكولوجي الآن، فإن النقود أكثر تشوهًا، لأنها نركز نشاط العقل على وسيلة تجعله يفقد كل إدراك عقلاني لتنوع العالم”. ويفنّد الكاتب ما أورده الفيلسوف سيميل في كتابه (فلسفة النقود)، بحيث يقدم “معرضًا للشخصيات النمطية” كالبخيل، المسرف، الجشع، المولع باللذة، والساخر. ويقول: “تقع النقود في قلب تطور هذه الشخصيات، التي هي في الحقيقة مولدة لها”. ويخلص الكاتب -بعد تفنيده ذاك- إلى “إننا نترك تقدير الأشياء خلفنا عندما نُرغم أنفسنا على استخدام النقود لقياس القيمة، فثقافة النقود تخفي الواقع خلف ستار، لأن القيمة في الثقافة الرأسمالية تكون مسألة أصول مالية وأغراض رفاهية للأغنياء، فيما هي للفقراء والمستهلكين الاعتياديين محض مسألة مساومات ومقارنات بين الجودة والسعر، هو أمر قد أدى إلى تطور (طبائع مرضية) خاصة.

وفي تناوله لمصطلح (الاقتصاد الجشع) يبدأ الكاتب بتعريف الاقتصاد بقوله: “لا تتعلق العملة المعدنية بمجموعة من القيم المرتبطة بسلع فقط، ولكنها تتعلق أيضًا بمركز جاذبية يضمن مدارها؛ المدار الذي سوف يخلق نظامًا دائريًا لنشاط المجتمع الذي يستخدمها”. وفي ضوء هذا التعريف؛ يسلط الكاتب الضوء على الاقتصاد الاستعماري والمطبق في افريقيا، فـ “مركز الجاذبية هذا مفقود”. ويتحدث الكاتب عن نتائج ذلك من فساد وتبديد. فمسألة السيطرة على العملة والاستثمارات تؤدي إلى “عدم توليد قيمة من واقع الإنتاج” و “رأس المال هنا، غير مرتبط بأي شكل من الأشكال بحالة العمل والإنتاج، وتوزيع السلع في مجتمع منظم، وإنما بقدرة الإفريقيين على جذب هذه السلع وبقدرتهم على تملكها”.

وعن مصادر التمويل في مثل هذا البلدان الإفريقية يقول الكاتب: يأتي من ثلاثة مصادر: أولًا: ميزانيات الممولين الدوليين المرصودة لأغراض “التنمية” والتنمية هنا تشير إلى “وجوب لحاق إفريقيا بالغرب”، ثانيًا: الاستثمارات الخاصة (زراعة، بترول، تعدين..) وهي شركات تُمطر الأموال على المسؤولين الحكوميين، وثالثًا، الاقتصاد الاجتماعي والذي يوفر بشكل دوري برامج المساعدة الكثيرة والاعتباطية ويسمى بالمنظمات غير الحكومية. ويطلق الكاتب على المصادر هذه لفظة (الاستعمار الاقتصادي) ويحذّر من نتائجه الكارثية المتعمّدة.

تحت عنوان (نهب مُسيّر عن بعد) يتناول الكاتب، بشكل أعمق وأوسع، دور المنظمات غير الحكومية، ويشبه دورها بـ (الاحتلال السياسي). ويضرب مثالًا من (هايتي) في عقب الزلزال الذي ضربها عام 2010 “قامت اللجنة المؤقتة لإعادة إعمار هايتي بوضع البلاد تحت وصاية واقعية، محدِّدة مجال عمل الحكومة بدور شكلي فقط، واشترك “بيل كلينتون في رئاسة هذه اللجنة التي ضمت مجموعة غير متجانسة من الشركات الخاصة، المنظمات غير الحكومية، وكالات التمويل، دولًا ذات تاريخ من التدخل السياسي في هايتي”. ويضيف الكاتب: “كانت تلك المؤسسات تمنح المال لبناء عيادة هنا، رصف ثلاثين قدمًا من طريق هناك، بناء مكتبة كيفما اتفق في مكان آخر، وكانت كل هذه الإنجازات تُعزى إلى الشركات أو المنظمات غير الحكومية التي قدمت تلك الخدمات (…) وبشكل عام ظلت نسبة الأمّية كما هي وبقيت شوارع المدينة خَرِبة، واستمرت مشكلات الصرف الصحي”. ويستأنف الكاتب بقوله: “في ظل نظام الحوكمة، فإن الشيء الوحيد الذي يهم الشراكة بين أطراف (المجتمع المدني) المتعددة وغير المتساوية والقطاع الخاص، ودولة ما عاد ينظر إليها إلا كقرين، وهكذا تصبح الفوضى مركزًا للسلطة”. أما بالنسبة إلى أصحاب تلك الشراكة، يقول الكاتب: “إن هايتي بالنسبة لهؤلاء هي فقاعة إنسانية تساوي ما يقارب من عشرة بلايين دولار”.

حول هذا “النوع الجديد من السيطرة الكولونيالية” يورد الكاتب شروحات وأمثلة من كتابين تناولا هذه المسألة، أهمية الكتابين تأتي من الملامسة العيانية للنهب الكولونيالي، ومما أورده الكاتب: إن إقامة مبنى كيفما اتفق لمدرسة ما، ثم ملأه بالأطفال السعداء لهو أمر مربح أكثر”. كما بتناول الكاتب، في السياق ذاته، أعمال شركات التعدين وشركات قطاع الصناعات الاستخراجية والماء والكهرباء، وغيرها.

الفصل الثالث: الثقافة والحضارة

يبتدأ الكاتب هذا الفصل بقوله: “النقود تخدم الفن وتستخدمه في الآن ذاته لتخبر عن نفسها، باعتبارها وسيلة توسطية للتأثير في التفاهة في أعظم حالاتها” ويفرّق الكاتب بين نوعين من الاقتصاد (الروحاني، والمادي) شارحًا دور ووظيفة كل منهما.

يقول الكاتب: إن نمط الحياة المُترف للأثرياء والمشاهير يعكس الثقافية الصناعية الجمعية الذي صاروا هؤلاء يقلدونه. ويورد الكاتب مثالًا على عائلة (ديسماريه)، وهي واحدة من أغنى عائلات كندا وفرنسا لعقود، ويُظهر الكاتب من خلال هذا المثال “تجسّد منظمة السلطة السياسية غير المحددة، ولكن الحقيقية، ومن مشاهدة السياسيين، المهنيين، رجال المال والشخصيات الثقافية التي تحوم حول (ديسماريه). يقول الكاتب: يمكننا أن نفهم الآتي:

1- أن في الأمر نظامًا حقيقيًا جدًا للسلطة، إلا أنه لا يُترجم إلى أي شكل دستوري أو مؤسسة مُدرَكة في المجال العام.

2- هذا النظام النخبوي، سوف يستوعب الأشكال التقليدية للسلطة.

3- هذا النظام يجمع بين ملّاك العقار والشركات متعددة الجنسيات (…) وهذا ما يمكنهم من متابعة عملياتهم المالية خارج نطاق الدولة التي يسود فيها القانون.

4- تعريف ووصف هذه الهياكل الجديدة للسلطة يتملص بشكل كبير من تقاليد الفلسفة السياسية والأشكال المستقرة حول سيادة الدولة، كما تعرفها النظرية الدستورية.

5- هذه السلطة الصامتة، الافتراضية، تراوغ كذلك النظريات النقدية الخاصة بالانعتاق السياسي، التي ترى الديمقراطية باعتبارها ديالكتيكًا بين الخطاب الرسمي للسلطة، ودحضه الجدلي من قبل المحكومين به.

حول “رأس المال الثقافي” يقول الكاتب: “يّفرض على الفنانين العمل وفقًا لأهداف السوق أكثر من الأهداف المرتبطة بعمليتهم الإبداعية الخاصة” و “الفنان، إن لم يخضع لهذا الترويض، فإنه لن يُعتد به”. ويكمل الكاتب هذا الفصل من الكتاب، بالإجابة عن تساؤلات عديدة، منها:

ماذا لو لم تكن المعرفة حكرًا على أحد؟ ماذا لو كان هناك فن للإدارة غير قابل للاختزال إلى الحدود الضيقة الخاصة بمهارات أيّة جماعة مجتمعية بعينها؟ ماذا لو لم تكن هناك أيّة طريقة فنية بعينها لإدارة الأشياء، وإنما مجرد مقاربة جمالية للاقتصاد، يعيد وضع هذا الاقتصاد في مجال التعددية والذكاء والعالم كما تدركه الحواس؟

 

الفصل الرابع

ثورة-إنهاء ما يُضرُّ بالصالح العام

يقول الكاتب في افتتاحية هذا الفصل: “عندما يتم إنتاج المعرفة بمهارة حتى تمتثل للأيديولوجيا، فإن كل شيء يتآمر لإنكار الحالة التي نكون عليها”.

وفي مستهل حديثه عن الثورة، يقول الكاتب: “الثورة، التي تعني إسقاط المؤسسات والسلطات التي تدمر الصالح العام بشكل خطير وجعلها من الماضي، هي مهمة عاجلة جدًا” وأنه “كلما كان هناك موقف يحررنا من حالات التفاهة المضنية؛ كلما وُجدت فكرة تساعدنا في تطوير حياة مُمأسسة بشكل كريم، ستكون هذه طُرقًا لنا للمضي إلى الامام، من دوت أيّة ضمانات”.

يتناول الكاتب -فيما بعد- موضوع الفساد “يهدد الديموقراطية بشكل دائم، وينبغي الآن أن نقول إن مبدأ الديموقراطية -وقد أصبح الآن فاسدًا- صار يفسح المجال لنظام جديد يوصف بـ “الحوكمة”: إن الجامعة الفاسدة ينتهي بها الأمر كمؤسسة تعمل في مجال بيع الخبرة، والاقتصاد الفاسد يؤدي إلى ظهور الأوليغارشية المالية، والمؤسسات القضائية الفاسدة تقوم إلى قيام جهات خاصة تُعنى بالتسويات المكلّفة للمنازعات”. ويضيف: “علينا أن نعرّف أشكال هذه المؤسسات الجديدة، فهم كيفية عملها، ونرى كيف يمكننا عرقلة عملها”. ويؤكد الكاتب على أن “النظام الذي نجد أنفسنا فيه الآن ما عاد يُهدد الديموقراطية؛ لقد نفّذ هذه التهديدات فعلًا، لنسمي هذا النظام أوليغارشية، طغيان برلماني، شمولية مالية (…) فمتى وجدنا الاسم المناسب لهذه النظم، يصير علينا عندها أن نقاومها، إن كنا ديموقراطيين”.

خاتمة: سياسات الوَسَط المتطرف

يتناول الكاتب بدايةً، اليساريين، من وجهة نظر (يساريون ولكن..)، فيقول: “بوجود الكثيرين ممن يدعون أنهم ينتمون إلى جناح اليسار، ولكن..، فقد انتهى الأمر بقيم الجناح اليساري، بأن فُرّغت من محتواها من خلال الإجراءات المتتالية التي ناقضتها”. ويورد الكاتب أمثلة عديدة في كل من بريطانيا وألمانيا وفرنسا. ويعتبر أن جميع اليساريين فيها قد أغفلوا تمامًا “المنطلق الأساسي للاشتراكية” المتمثل بـ “تضافر الجهود، من خلال الإرادة الجماعية، لوضع القيود على نوايا ذوي السلطة”. ويخلص الكاتب -في هذا الإطار- إلى قوله: “لقد تماهى الاشتراكيون بشكل قريب مع كلمة (ولكن) أكثر منهم مع كلمة (اشتراكي).

ينتقل الكاتب إلى “تصنيف شخصيات مفاهيمية تظهر لتجسد ردود الفعل المحتملة لهيمنة النظام الذي يتطلب التفاهة”. الأولى، “ترفض النظام الراسخ من خلال الانسحاب منه. الثانية، ” الشخصية التافهة بطبيعتها (…) يصدق ما يروى له من أكاذيب (…) يحبه الأيديولوجيون، وهو يعتنق نظرياتهم لأنها أصبحت جزءًا من بنيته الذاتية، كل ما ينتج عن ممارسات زماننا تبدو له طبيعية جدًا. الثالثة، “الشخص التافه المتعصب، إنه محنة حقيقية، يطلب المزيد دائمًا، إنه شخص يعرف جميع الحيل (…) يفكر في إزالة أي منافس محتمل. كأستاذ في المكائد، هو محمي دائمًا بفن عدم الاقتناع العميق بأي شيء، ما يعني أنه متاح باستمرار لأن يصبح جزءًا من أي اصطفاف تفرضه الظروف. إنه مرآة لزمانه (…) تكمن قوته الأهم في أنه غير قادر -تمامًا- على التفكير التأملي. الرابعة، “هو شخص تافه رغمًا عنه (…) على عاتقه أفواهًا يجب إطعامها (…) ينفذ عمله تحت الضغط، وينفذه مع شعور بالعار”.

أخيرًا، يطرح الكاتب أسئلة عديدة: “ما الذي أستطيع عمله بهذا الصدد؟ أين (ديغول) الذي سيجيب الدعاء؟ (غاندي) الذي يمكننا اتباعه؟ وفي هذا المرحلة من التقصير السياسي، ما الذي يمكن عمله؟” ويجيب: “إن السؤال يرفع من وعينا الاجتماعي والسياسي. إنه نقطة الصفر التي يمكننا، انطلاقًا منها، بلورة أسبابنا الداعية إلى الهروب من أنفسنا، البحث عن سُبل للتصرف بشأن البنى الجمعية التي تحدد ظروفنا، وفهم إلى أي مدى يعتبر هذا الشيء الذي نسميه تعجلًا (الضمير الفردي) نتاجًا بسياق ثقافي، اجتماعي وأيديولوجي ما (…) توقف عن السُخط، اعمل بلا هوادة لخلق توليف من القضايا الوجيهة، التق مع الآخرين في تجمعات بخلاف تلك الطائفية والشللية، اسخر من الأيديولوجيات (…) تجاوز أساليب السيطرة التي تمارسها المنظمات، وحاول خلق بنى تشبهنا، كن راديكاليًا.

 

آلان دونو

آلان دونو (مواليد 26 سبتمبر 1970) (بالفرنسية: Alain Deneault)‏ فيلسوف كندي، دكتور في الفلسفة من جامعة باريس 8 سنة 2004. ومدير البرنامج في الكلية الدولية للفلسفة في باريس. يعيش في مونتريال، حيث يعمل محاضرًا في علم الاجتماع بجامعة كيبك، التابعة لقسم العلوم السياسية.

مراجعة: فادي كحلوس

مدير تنفيذي لمؤسسة ميسلون للثقافة والترجمة والنشر، من مواليد 1979، خريج كلية الإعلام بجامعة دمشق، ناشط سياسي واعلامي، من مؤسسي (تجمع أحرار دمشق وريفها للتغيير السلمي – لجان التنسيق المحلية – تجمع أحرار ثورة الكرامة) 2011، له عديد من المقالات والقراءات النقدية منشورة في عدد من الصحف المطبوعة والإلكترونية.

مشاركة: