Search

فلسطين تكشف تناقضاتنا

سُجِّلت خلال المنازلة الأخيرة بين الشعب الفلسطيني والاحتلال مواقف متناقضة عديدة، تجاه تطورات هذه المواجهة بشكل خاص، وتجاه القضية الفلسطينية بشكل عام. لكن، قبل الشروع في تقديم ما جرى، هناك نقاط أولية ينبغي تسجيلها:

أولًا، تطور تلك المواقف المتناقضة جنبًا إلى جنب مع تطور الأحداث. مع ملاحظة أن تطور بعض المواقف لم يقتصر على التشدد أو التراخي، بل تجاوز ذلك إلى التبدل الجذري من مؤيد إلى معارض أو العكس.

ثانيًا، كانت جميع المواقف متفقة، تقريبًا، على التضامن مع الحراك السلمي الذي عبر عنه معظم الشعب الفلسطيني، إلا أن انقسامات حادة في المواقف برزت بقوة بعد تدخل حركة حماس بصواريخها. بين مؤيد للتدخل العسكري ومشكِّك في نزاهة ذاك التدخل ونجاعته، وصولًا إلى الاختلاف حول أحقية النصر والهزيمة، ومعنى النصر أمام أعداد الضحايا الأبرياء وحجم الدمار الهائل.

يبدو من الجيد التذكير بأن بداية المواجهة ارتبطت بمحاولة الاحتلال تنفيذ قرار قضائي، مطعون في نزاهته، يقضي بإخلاء سكان فلسطينيين من منازلهم في حي الشيخ جراح. وذلك لمصلحة منظمات مدنية – دينية تدعي امتلاكها وثائق تثبت ملكية تلك المنازل، لأفراد يتبعون الديانة اليهودية. يعود تاريخ هذه الوثائق إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، إبان تبعية تلك البلاد للسلطة العثمانية. ما يعني سهولة حسم قضية الملكية بالرجوع إلى الوثائق العثمانية ثم الأردنية، إلا أن قضاء سلطة الاحتلال رفض كل الدفاعات التي تقدم بها السكان الفلسطينيون، وبدلًا من تحريك الدعوى العامة بجرم التزوير بحق أعضاء تلك المنظمات، أخذ بالوثائق المزورة وبنى حكمه عليها.

لا يرغب هذا المقال في مناقشة القضية من الناحية القانونية، ولكن نجد من الضروري التذكير بأن الفلسطيني لا يواجه جيش الاحتلال والمتشددين والمستوطنين فحسب، بل إنه يواجه السلطات الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية، والأجهزة الإدارية العامة كافة، وجزءًا كبيرًا من المنظمات المدنية والدينية، ووسائل إعلام الاحتلال. ولا أبالغ إذا قلت إن المواجهة مفروضة عليه في الميدان الاقتصادي والاجتماعي أيضًا. في الواقع هو في حرب وجود لم يخترها، هي حرب فُرضت عليه منذ إعلان نشوء دولة الاحتلال.

صحيح أن تهجير الجزء الأكبر من الفلسطينيين جرى خلال الحروب، لكن سياسة التهويد لم تتوقف لحظة واحدة منذ عام 1948. إذ لم تتوقف قرارات الإخلاء والإبعاد والاعتقالات وأحكام السجن الجائرة واتهامات الإرهاب وتفجير المنازل وتهديمها ورفض منح رخص البناء وبناء المستوطنات وغيرها من الممارسات. إضافة إلى تهميش الفلسطينيين، وتحويلهم إلى مجتمع من الدرجة الثانية، فضلًا عن محاولات محو ذاكرته. يجب أن نتذكر أن القضية لم تتوقف عند حد اغتصاب الأرض فحسب، لقد سرقوا أصناف طعامهم وموسيقاهم وأزيائهم. هم يسرقون تراثهم ليحولوهم إلى نكرة، إلى شعب من دون هوية. والأبشع من كل ذلك أن جرائم القتل، شبه اليومية، بحق فلسطينيي الداخل، والتعتيم عليها، لم تتوقف أيضًا. هذه ليست اتهامات من دون أساس أو مبنية على العاطفة فحسب، بل واقع مُدرك يكاد يغيب عن وسائل الإعلام، وعن ذاكرتنا أيضًا. إذًا أين الديمقراطية الوحيدة في المنطقة؟ وهل تستقيم الديمقراطية مع أنظمة تقوم على الإجرام الممنهج والتمييز العنصري؟

يمكن اختصار غاية النضال من أجل الحرية بفكرة الحياة الكريمة. لكن ما الجدوى من هذا النضال إذا كان ثمنه الحياة نفسها التي نكافح من أجلها؟ من هذه النقطة، بالتحديد، تنبثق ميزة النضال السلمي عن النضال المسلح. الغاية الأقدس في أي معركة حرية هي الإنسان ذاته. فلا معنى للأرض من دون شعب، ولا معنى للمقدس من دون مؤمنين، ولا معنى للبيت من دون سكان.

الحقيقة التي سجلها التاريخ المعاصر أن أصحاب الحقوق، لم يلجؤوا إلى العنف فورًا للمطالبة بحقوقهم. نحن نطالب ونطالب ونصعّد من أشكال مطالبتنا كلما تعنت المستبد بعدم الاستجابة لما نطالب به. هذا ما تؤكده جميع تجارب ثورات الربيع العربي خلال العشرية الماضية. لم يُسجَل أن أي شعب اتجه مباشرة إلى استخدام السلاح قبل أن تتعثر وسائله السلمية، وإنما كان السلاح ملجأً للشعوب التي استخدمته بعد تعرضها للقتل والإجرام. صحيح أن نتائج الصراع المسلح أكثر تكلفة، لكن السؤال الذي يجب الإجابة عنه، هل كان متاحًا لهؤلاء السلميين أن يظلوا مسالمين؟ الأغلبية الساحقة من المؤيدين لثورات الربيع العربي أيدوا أو برروا أو تفهموا تحول الصراع في سورية، على سبيل المثال، من سلمي إلى مسلح على الرغم من تكلفته المأساوية غير المسبوقة منذ الحرب العالمية الثانية.

لم تندلع أي انتفاضة فلسطينية سابقة من دون إقدام الاحتلال على عمل إجرامي أو استفزازي. ولم تقتصر أي انتفاضة سابقة على النضال السلمي، حملت جميعها الطابعين، السلمي والمسلح. الانتفاضة الأولى “انتفاضة الحجارة” في عام 1987 اندلعت إثر دهس مستوطن عددًا من العمال العرب، واستمرت حتى عام 1991، إذ سُجلت بعض الأعمال العسكرية باستهداف جنود الاحتلال والمستوطنين أحيانًا، سقط خلالها نحو 1300 شهيد فلسطيني، وقتل نحو 150 من طرف الاحتلال. الانتفاضة الثانية في عام 2000، وهي الأعنف، بدأت سلمية شعبية، ومن ثم تحولت إلى مواجهة عسكرية عنيفة جدًا. انفجرت إثر دخول رئيس وزراء الاحتلال شارون ساحة المسجد الأقصى، عرفت باسم انتفاضة الأقصى، وراح ضحيتها ما يزيد على 4000 شهيد فلسطيني، بينما فقد الطرف الآخر نحو 1100 فرد. الانتفاضة الثالثة في عام 2015، انفجرت إثر إقدام مستوطنين على إحراق منزل أسرة الدوابشة، واستشهاد رضيع، ووالديه لاحقًا. لم تقتصر على التظاهرات ورمي الحجارة، بل شهدت أعمالًا استشهادية، وإطلاق صواريخ من غزة. سقط خلالها أكثر من 200 شهيد فلسطيني في الضفة الغربية والقدس، ونحو 50 عنصرًا من عناصر الاحتلال، بينما سقط في غزة وحدها ما يزيد على 2000 شهيد.

لن نتطرق إلى المواجهات التي انحصرت في قطاع غزة، وما سقط خلالها من آلاف الأبرياء بحجة أمن الاحتلال. الانتفاضة الأخيرة، إذا ما اتفقنا على عدها انتفاضة، لم تختلف في أسباب الصراع ولا أطرافه ولا طبيعته عن سابقاتها، غير أنها كانت المواجهة الأقصر والأقل تكلفة على الشعب الفلسطيني. إذًا ما سر كل تلك الانتقادات للعسكرة؟ على الرغم مما صنعته من فارق في توازنات المواجهة؟ الجواب عن هذا السؤال يقودنا مباشرة إلى قضية حماس والموقف منها. لكن قبل البحث في مسألة حماس، هناك ما يجب تسليط الضوء عليه.

أولًا، يجب أن نتذكر دائمًا أن الفلسطينيين شعب معتدى عليه وليس شعبًا معتديًا، وأن كفاحه السلمي أو المسلح في سبيل حريته حق كفله ميثاق الأمم المتحدة، ومبادئ الحق والعدالة.

ثانيًا، إن جنوح منظمة التحرير نحو حل أوسلو لم يكن بسبب رغبة ياسر عرفات الخالصة في هذا الحل، وإنما نتيجة التخاذل العربي في دعم الشعب الفلسطيني، ومحاولات التحكم في قراره المستقل، والتآمر الدولي لمصلحة المحتل. ومع ذلك فإن مرحلة ما بعد أوسلو شهدت مواجهات مسلحة عديدة.

ثالثًا، انطلقت الانتقادات المضادة للكفاح المسلح، والدعوات إلى التزام سبل التفاوض والدبلوماسية والنضال السلمي بعد رحيل ياسر عرفات، فعلى الرغم من غياب التفاوت الكبير بين حجم تضحيات الشعب الفلسطيني، إبان زعامة ياسر عرفات وقيادة فتح للكفاح المسلح، وحجم التضحيات الحالية، لم يجرؤ أحد على انتقاد سلاح منظمة التحرير الفلسطينية سابقًا.

إذًا فالقضية ليست إطلاق الصواريخ، بل من يقف وراء إطلاق هذه الصواريخ، وهنا تكمن مسألة حماس. لا شك أن حماس منظمة عسكرية تحمل أيديولوجية دينية، وهي، كما صرح زعماؤها، منخرطة في مشروع إقامة دولة إسلامية، والواقع أن لدى شعوب المنطقة تجارب مريرة مع التنظيمات الدينية المسلحة المشابهة لحماس، كحزب الله اللبناني، وفصائل المعارضة السورية، والتنظيمات المسلحة العراقية، وتنظيم داعش، والحوثيين وغيرها، إذ لم تترك أي بصمة إيجابية في إطار بناء دول مستقلة حضارية ترعى مصالح شعوبها، بل العكس تمامًا، لقد فشلت هذه التنظيمات في كل شيء إلا في إحكام سيطرتها الاستبدادية بقوة السلاح على المجتمعات التي تفشت فيها، وتدمير هذه المجتمعات أخلاقيًا، وفكريًا، واقتصاديًا، واجتماعيًا.

لا تتوقف مخاطر مشاركة التنظيمات الدينية المسلحة في النضال الوطني على هذه النواحي فحسب، إذ إن أخطر ما تعمل عليه هو محاولة تزوير حقيقة الصراع، من قضية كفاح وطني إلى قضية صراع عقائدي بين الأديان والطوائف، فهذه السمة الدينية التي تحاول بعض الأنظمة في المنطقة إسباغها على الصراع، مثل النظام الإيراني، لا تصب إلا في مصلحة هذه الأنظمة، ومصلحة المحتل بشكل أكبر. ربما من بين أبرز أخطاء القيادات الوطنية الفلسطينية محاولتها إسباغ طابع قداسي ديني، وآخر قومي على القضية الفلسطينية، بهدف كسب دعم الشعوب والدول الإسلامية والعربية. وعلى الرغم من الفوائد التي من الممكن كسبها من هذا التسويق، إلا أنه سيؤثر سلبًا في قضيتهم من الجانب الإنساني العالمي الذي هو من دون أدنى شك، أوسع وأعمق، ولا يُخرج القضية عن إطارها الوطني. هل هي قضية القدس والمسجد الأقصى، أم قضية شعب سلبت أرضه؟ ولكي نرد على الادعاء بدينية الصراع سنكتفي بطرح السؤال التالي: هل كانت مواقفنا تجاه القضية الفلسطينية ستختلف لو لم يكن الأقصى في القدس؟ أو حتى لو لم تكن القدس موجودة في فلسطين؟ قطعًا لا. الواقع أن الصراع الديني يعطي المحتل كل المبررات الأخلاقية التي يحتاجها لانتزاع الأرض من أصحابها نهائيًا.

لكن مشكلة حماس معقدة بشكل لا يجيز لنا الاكتفاء بما سلف سرده، لأن حماس، في النهاية، هي جزء من مسيرة الكفاح الوطني الفلسطيني في سبيل الحرية، بغض النظر عن اختلافنا معها حول مفهوم الحرية. بالتالي، فإن هذه الخاصية التي تميزها عن غيرها من منظمات المنطقة لا تسمح لنا، في سياق موقفنا من الحركات الدينية السياسية، أن نتخذ منها الموقف ذاته. تدرك حماس، بوصفها لاعبًا سياسيًا في الساحة الفلسطينية، الواقع الفلسطيني بشكل عميق. وهي لصيقة به إلى حد بعيد. بل إن ابتعاد رموز الكفاح الوطني الفلسطيني عن هذا الواقع، كان من بين أسباب نشوء حماس وغيرها من الحركات الدينية. لا يعاني الفلسطينيون الاحتلال فحسب، بل الفقر والأوضاع المعيشية الصعبة أيضًا. ولا تختلف في هذا قيادات حماس ولا مقاتليها عن بقية أبناء الشعب الفلسطيني كثيرًا، بل إن قيادات حماس لا تسمح لنفسها بالظهور إعلاميًا بشكل يوحي بثرائها أو تميزها عن بقية الفلسطينيين. وهذا حال التنظيمات الدينية كافة. لم يبتعد ياسر عرفات يومًا عن شعبه، فظل محبوبًا حتى اليوم. لكن ما هو حال قيادات السلطة الفلسطينية اليوم؟! لا يعيب حماس أنها نجحت إلى حد بعيد في استقطاب الشعب الفلسطيني. في الواقع هذا يعيب منافسيها السياسيين، ولا يعيب حماس، كذلك، استغلالها الجيد لأوضاع المواجهة الأخيرة، كي تهمش غيرها من القوى الفلسطينية، ولكي تفرض نفسها محاورًا عن الشعب الفلسطيني. وهذا ما حصل فعلًا عندما أعلن عدد من الدول الفاعلة ضرورة الحوار مع حماس.

إن أخطر ما يعمل الاحتلال على تحقيقه، في إطار إنهاء قضية الشعب الفلسطيني، هو تقسيم هذا الشعب. على أرض الواقع يعيش الشعب الفلسطيني ضمن أربعة تقاسيم جغرافية هي: فلسطينيو أراضي 1948 تحت حكم الاحتلال، فلسطينيو الضفة الغربية تحت حكم السلطة الفلسطينية، فلسطينيو غزة تحت حكم حماس، وأخيرًا فلسطينيو الشتات. بالتالي لم نعد أمام قضية شعب واحد، بل أمام مجموعة قضايا يرتبط كل منها بمجموعة بشرية مختلفة. لذلك فإن أهم وأمضى سلاح يتمسك به الشعب الفلسطيني في كل مواجهة، تضامنه مع بعضه بعضًا. إذ من غير المقبول أن يقف فلسطينيو الداخل والضفة والشتات من دون ردة فعل، بينما يتعرض فلسطينيو غزة للقصف مثلًا. بل إن قضية أي فلسطيني يجب أن تكون قضية كل فلسطيني في أي مكان، وهذا بالتحديد ما أهملته إدارة محمود عباس، ونجحت حماس في استثماره إلى حد بعيد جدًا.

لا يتوقف إدراك حماس للواقع الفلسطيني على الجانب المعيشي، بل يتجاوز ذلك إلى إدراك مشاعر أبناء هذا الشعب، وفهمهم لطبيعة صراعهم مع المحتل. من دون شك، كانت حماس تعلم أن المحتل سيرد على إطلاق الصواريخ، وأن عددًا كبيرًا من الضحايا سيسقط، وأن دمارًا كبيرًا سيحدث. ومع ذلك لم تتردد في هجماتها الصاروخية. بالنسبة إلى الفلسطيني، خصوصًا ابن غزة، لا تختلف أوضاع حياته اليومية خارج إطار المواجهات العسكرية عن حياته في خضم تلك المواجهات كثيرًا، فهو يتعرض للقتل كل يوم من دون حاجة إلى تبرير هذا القتل، وهو، تقريبًا، في حالة حرب شبه دائمة. الفارق الوحيد أن المحتل يقتل الفلسطينيين يوميًا بشكل فردي، بينما يصبح القتل جماعيًا في زمن المواجهة. الحقيقة، بالنسبة إليه، أن المحتل يصعّد وتيرة القتل خلال المواجهات ليقتل أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين. بالتالي لا معنى للمطالبة بصيانة أرواح المدنيين، لأنهم عرضة للقتل في كل لحظة. وهذا ما تدركه جيدًا حماس، وما تعول عليه في كل هجوم صاروخي تشنه.

لا يمكن لأحد أن ينكر على حماس موقفها الداعم لثورات الربيع العربي، خاصة الثورة السورية. لقد كلفها موقفها تجاه الشعب السوري كثيرًا، من إغلاق مكاتبها في دمشق وطرد أعضائها منها، إلى التضييق عليها سياسيًا. ولا ننسى أن عددًا لا بأس به من مقاتليها، قد انخرطوا في القتال ضد قوات النظام السوري. في المقابل، لم تجد حماس حلفاء يقدمون لها الدعم المادي والمعنوي، في إطار سعيها إلى تحقيق مشروعها الوطني، والعقائدي، على المستوى الفلسطيني سوى النظام الإيراني. والحقيقة أن هذه القضية بالتحديد تطرح إشكالية أخلاقية معقدة. كيف من الممكن لحماس التحالف مع النظام الإيراني، الذي يشارك في قتل شعب كان دائمًا داعمًا للقضية الفلسطينية. يجب ألّا يفوتنا أن قطاع غزة، حيث توجد حماس، يخضع لحصار خانق منذ عشرات السنوات من قوات الاحتلال، وكذلك من جانب النظام المصري. لكن في الحصيلة نحن أمام صراع سياسي، حيث لا يمكن التعويل كثيرًا على المبادئ الأخلاقية، وحيث لا توجد تحالفات ثابتة، إنما توجد مصالح متغيرة بحسب الوضع السياسي. ومن هذه الزاوية يبدو تحالف حماس مع النظام الإيراني وتوجيه قياداتها الشكر لهذا النظام القمعي مبررًا سياسيًا.

ليس هناك نصر مطلق ولا هزيمة مطلقة. في أي نصر لا بد من بعض الخسائر، وكذلك في كل هزيمة لا بد من بعض الانتصارات. لقد نجح الفلسطينيون خلال المواجهة الأخيرة بوقف تنفيذ قرارات الإخلاء في حي الشيخ جراح وفي مناطق أخرى، وتمكنوا من إعادة تسليط الضوء على قضيتهم، وتأكيد ضرورة إيجاد حل عادل لها، بل إنهم فرضوا معادلات جديدة على الاحتلال، وتمكنوا من كسب الرأي العام العالمي من خلال مواقع التواصل الاجتماعي. والأهم أنهم استعادوا إلى حد بعيد ثقتهم بأنفسهم وبقضيتهم. من جهة أخرى لا بد من الاعتراف بأن المواجهات السلمية والشعبية لم تكن وحدها لتنجح في تأدية دور حاسم في حمل المجتمع الدولي على التحرك. حتى أن الاحتلال بحد ذاته لم يكن ليرضخ لولا التكلفة الاقتصادية والنفسية، وما لحق به من خسائر على المستوى الإعلامي بفعل تصاعد المواجهة بشقيها، الشعبي والعسكري.

لقد خرج الفلسطينيون في كل مكان للاحتفال بوقف إطلاق النار، وبصمودهم وفرض موقفهم على المحتل في ظل أوضاع صراع غير متكافئة، وغير عادلة إطلاقًا، بين قوة احتلال تملك كل مقومات النصر، وشعب لا يملك إلا إرادته. يبدو ما حققه الفلسطينيون مؤخرًا نصرًا حقيقيًا، ولا يحق لنا أن نستكثره عليهم، ولا يجوز عده نصرًا لحماس وحدها، وإن كانت حماس قد نجحت في تحقيق كثير من نقاط الفوز خلال هذه المواجهة. ما ينبغي أن نعترف به، أن الفلسطينيين فاجأوا الجميع، الحلفاء قبل الأعداء، فبعد أن فقد معظمنا الأمل، خرجوا ليقولوا للجميع، ما زلنا هنا وما زالت قضيتنا في قيد الحياة، ما كشف مواقفنا المتناقضة تجاههم، فبينما هم يحتفلون بما أنجزوه، ذهب كثير منا إلى لومهم والتقليل مما أحرزوه بسبب موقفنا من حماس.

الواقع يقدم كيانًا محتلًا نجح في إقامة دولة، وأصبح له شعب ومؤسسات وجيش، ويحقق أعلى معدلات النمو الاقتصادي، وأصبح له دور بارز في مجالات البحث العلمي، كما يفرض وجوده دوليًا وإقليميًا. كل ذلك أمام حالة انحطاط غير مسبوقة، تعيشها شعوب المنطقة جميعها، ومن بينها الشعب الفلسطيني. لكن مع ذلك لا تمكن مطالبة الفلسطيني، الطرف الضعيف في هذه المعادلة، بتقديم حلول. ليس هو من صنع هذه الأوضاع، وليس هو من يتحمل مسؤوليتها، وإنما المحتل، والمجتمع الدولي الذي يتعمد عدم التدخل. الشعب الفلسطيني مطالب بالصمود والتمسك بحقوقه، أما نحن فكل ما يجب علينا فعله من أجل دعم قضية عادلة، هو مناصرة أصحاب هذه القضية من دون أن نحل مكانهم، ومن دون أن يكون لعلاقتنا مع أحد مكونات هذا الشعب تأثير في موقفنا تجاه قضيته ككل.

 

مهند البعلي

ناشط حقوقي سوري في مجال حقوق الإنسان والمنظمات المدنية غير الحكومية، محامٍ متخصِّص بقانون الأحوال المدنية وقضايا مكتومي القيد، وعديمي الجنسية، والزواج المختلط. لديه بحث في واقعة الولادة في القانون السوري لنيل لقب أستاذ في المحاماة ٢٠١٠، معاون مدير الأحوال المدنية في وزارة الداخلية ٢٠٠١ – ٢٠٠٨، عضو مؤسِّس في تجمع المحامين الديمقراطيين عام ٢٠١١، منسِّق مشروع الشبكة السورية لبناء السلام ٢٠١٢ – ٢٠١٣، مدير العمليات في منظمة ايتانا للتوثيق ٢٠١٤ – ٢٠١٥، عضو مجلس إدارة تجمع منظمات حقوق الإنسان في مدينة انجيه في فرنسا منذ العام ٢٠١٥، ناشط في منظمة فرنسا أرض اللجوء منذ العام ٢٠١٨.

مشاركة: