Search

بنية ذهنية غريبة عن الفلسفة

هل هناك فلسفة عربية؟

على الرغم من أن الفلسفة في الجوهر هي نظر العقل إلى نفسه، أو هي وعي الوعي، إلا أنها في البدايات أيضًا إعادة اكتشافٍ للواقع، جوهر الواقع، ومادته الفكرية الخام.
لذلك فإن أسئلة الوجود، والماهية، وأصل الأشياء، هي حجر الأساس الذي يُبنى عليه أي صرح فلسفي، ومن هذا الأساس تتمظهر العمارة الفلسفية بكامل تفاصيلها من الفلسفة المحض للمنطق، للميتافيزيقا والفيزيقا، وصولًا إلى الفلسفة العملية كالرواقية مثلًا التي كانت فرعًا من فروع الأفلاطونية، والماركسية كفرع من فروع الهيغلية… إلخ.
بهذا المعنى للفلسفة، لا توجد فلسفة عربية بعد! إنما هناك انتفاع من الفلسفات العالمية لخلق منظومات فكرية متعددة، وفروع من الفلسفة كالكِندية والفارابية وفلسفة ابن سينا وغيرها، تلك الفروع التي زاوجت بين القرآن والأرسطية.
في عصرنا الحديث نجد أنّ المفكرين الذين يمكن أن يُطلق عليهم مجازًا اسم “فلاسفة”، هم أيضًا استمرار لفروع الفلسفة الغربية الماركسية أو الهيغلية بشكل أساس، مع تنويعات محدودة لـ كيركيجورد وسبينوزا وكانت وديكارت وغيرهم.
لم يستطع العقل العربي “الفلسفي” الخروج من عباءة الدين بعد، أما لماذا؟! فذلك يحتاج إلى بحث منفصل. حتى المعتزلة وإخوان الصفا والفِرق الباطنية التي استندت إلى العلم، بقيت في حالة المزاوجة بين الدين والفلسفة أو العلم، لكنها لم تحقق شرط نظر العقل إلى نفسه من دون مرجعيات تأسيسية.

 

هل انتهى دور الفلسفة؟ هل للفلسفة دور في هذا العصر الذي يوصف بأنه عصر العلم؟

ما دام هناك عقل وطبيعة فلا يمكن أن تنتهي الفلسفة، وما دام الإنسان لم يمتلك المعرفة الكلية فإن دور الفلسفة حاضر دومًا، ولا يمكن أن ينتهي.
ما يحصل في عصرنا هذا، هو أن العلم بفروعه المختلفة يتقدم بتسارع أكبر بكثير مما كان في العصور السابقة، يتسارع من جهة وباتجاه مزيد من التخصص. هذه سمة العلوم في هذا العصر، لذلك باتت الحاجة ملحة إلى ظهور فلسفة العلم، وقد ظهرت العديد من الكتب التي تداور فلسفة العلم، وباتت أيضًا “العبر مناهجية” ضرورة لربط وحزم فروع العلم المتعددة في كينونة “فلسفية” واحدة.
كانت الفلسفة في عصور أقدم تؤسّس المنهج العلمي لكونها “أم العلوم”، وتنبثق منها أنواع متعددة من العلوم الرياضية والفيزيائية والطبية وغير ذلك من صنوف العلوم.
ربما توقفت الفلسفة بشكلها القديم عند برغسون الذي سيّد الحسّ والحدس ودمجهما بالعقل؛ وظهر بعده فلاسفة منحازون إلى فرع من فروع العلم كـ برتراند راسل وناوومي تشومسكي وأركون ودريدا.
لكن أرى أن بين تلك الامتدادات الخاصة بالعلوم كلها، هناك، في رحم الميتافيزيقا تتكوّن فلسفة تنمو رويدًا رويدًا، وباتت على مشارف الإعلان عن نفسها كفلسفة جديدة نوعيًا، لماذا؟
لأن المنطق الذي ساد قرونًا طويلة كمنطق أرسطو، والمنطق الجدلي الهيغلي لاحقًا باتا في ورطة أمام بوادر المنطق الجديد الذي اكتشفته فيزياء الكمّ. فقد نقضت هذه الفلسفة مقولة (-أ- هي -أ-) ونقضت (لا يمكن أن يتواجد الشيء هنا وهناك في الوقت نفسه) ونقضت العلاقة المتعدية (إن كانت -أ- هي -ب- و-ب- هي -ج- فإنّ -أ- هي -ج-) والعديد من مقولات المنطق المعروفة.
كما أن الزمان والمكان لم يعودا ثابتَين ولا سرمديَين أيضًا. وقد أكّدت البحوث والاختبارات الفلكية ذلك، ولم يبقَ الأمر مجرد بحوث نظرية في الفيزياء الفلكية أو الفيزياء ما دون الذرية، فقد رُصِدَت وقائع حقيقية من خلال التلسكوبات الضخمة والأقمار الصناعية والصور الفلكية.
فضلًا عن ذلك كله، فإن الوحدة بالنسبة إلى الإنسان ضرورة وجودية؛ فإن كانت سعادة العالم بالتعدد، فإنّ السعادة الإنسانية تتجسد بالتوحّد/ الوحدة. لا يمكن أن يعيش الإنسان منقسمًا على نفسه، فهو في حاجة دومًا إلى رباط يحزم شتاته وتصوراته، وحدة تحافظ على هويته بل على وجوده؛ ولا يمكن تحقيق هذه الوحدة إلا من خلال الفلسفة لكونها تحتوي الكلّ، وتربط بين الأجزاء بالمنطق العقلي.
في عصر العلم هذا انتشرت البراغماتية، المنفعية، والوضعية، كانتشار النار في الهشيم؛ انتشار هدّد كلّيّة الإنسان ووحدته وتماسكه، وتحوّل الإنسان العاديّ إلى ترس في ماكينة الإنتاج الرأسمالية، وبات المتعلمون جاهلين بالكلّيّة العلميّة، وانحصرت معرفتهم في التخصص العلمي الضيّق الذي يدرسونه، ليصبحوا لاحقًا تروسًا أيضًا في عجلة الإنتاج بياقات زرقاء.
يحتاج عصرنا هذا إلى الفلسفة بإلحاحٍ، وأيضًا إلى اليوتوبيا الإنسانية الجامعة المنبثقة من كينونة فلسفية أصيلة ومتّزنة.

 

في النظر إلى المشكلات الثقافية والسياسية العديدة التي تعانيها مجتمعاتنا في المنطقة العربية، هل يحتاج حلّ هذه المشكلات فعلًا إلى الفلسفة؟ أم أن الممارسة الواقعية وحدها كافية لإنتاج الحلول؟

الفلسفة بمعناها الأكاديمي المتداوَل، غريبة عن البنية الذهنية لمجتمعاتنا، وستبقى غريبة في المدى المنظور، لأن الدول العربية ومؤسساتها التعليمية والمجتمعات العربية عمومًا ما زالت جميعها تقرّ إقرارًا ضمنيًا أو معلنًا أنّ الكتاب (القرآن) هو الأساس، فما وافق الكتاب من أفكار نأخذ به، وما خالفه رفضناه؛ فحكمة الله ومعرفته لا يمكن أن يكافئها عقل إنساني مهما سما.
لذلك لا أعتقد أنه يمكن أن تقدم الفلسفة حلولًا لما نعانيه في مجتمعاتنا العربية.
من جهة أخرى تكون الممارسة من دون الركون والاستناد إلى خطة عمل واضحة ضرب من العبث، ويجب أن تُبنى خطة العمل على تصوّر واضح عن الواقع، تصور حقيقي وليس أيديولوجي أو رغبوي، تصور يدرك ما هو الأفضل لمجتمعاتنا، أي لديه أهداف ممكنة وواقعية للنهوض من حالة العجز والهوان.
وربما الطريق الملائم هو أن يتم العمل على تأسيس بحوث جادة غير مستَلبة وغير مؤدلجة لفهم خريطة الواقع العربي فهمًا علميًا، ثم الشروع إلى تأسيس برامج وآليات عمل يمكنها أن تحرّك وتغيّر في هذا الواقع، مبدئيًا الإصلاح الدينيّ، وتقديم رؤية حضارية للدين أمر مهم جدًا، أيضًا الإصلاح الاجتماعي من خلال تقديم بدائل ممكنة للعمل الاجتماعي الذي يساهم في تفتيت ثقافة العجز والهوان، والثقافة المصلحية المنتشرة في مجتمعاتنا. هذا هو الأساس العميق الذي يمكن بناء أسس مجتمع حضاري معافى، ولاحقًا دولة بالمعنى الحقيقي للدولة.

جلال مراد

كاتب وباحث سوري تولد دمشق ١٩٧١ من سكان محافظة السويداء – القريا، كتب في العديد من الجرائد، والمجلات، والمواقع الإلكترونية كجريدة القبس وجريدة الراي وجريدة بانياس ومجلة الأبعاد الخفية وغيرها.

مشاركة: