Search

المجتمع المدني؛ التنوير وسؤال الصيرورة

توطئة
لا يزال المجتمع المدني عربيًا محطّ تساؤل وجدل، لمّا تُحسم صورته وشكل توضعاته بعد؛ فثمة تباين شديد بين المجتمع المدني المتحقِّق في الدول الحديثة التي يسودها القانون الوضعي، وبين السلبيات والخيبات التي تعانيها التجارب العربية على اختلافاتها، حيث لمّا تتحقق بعد مقومات الدولة والقانون التي تتيح للمجتمع المدني ومؤسساته ممارسة دوره المستقل في الحياة المجتمعية، إضافة إلى عدم استقراره أمام جملة من الافتراضات التي تتنازعها النظريات والأطر الثقافية من جهة، ومعطيات الواقع من جهة أخرى، ما جعل أدوار منظماته ومؤسساته المدنية غير واضحة المعالم، خاصة بعد مجريات الربيع العربي.
تناولت دراسات عربية عدة المجتمع المدني فكريًا وأدواتيًا، الدور والوظيفة، في مرحلة التحولات العسيرة في المنطقة، لكنها لم تفضِ إلى خلاصة مفيدة وتُمكن المراكمة عليها. فبين أحلام الشباب العربي في تحقيق مشروع الدولة الحديثة، وسعيهم لأن أن يكونوا كأقرانهم في دول العالم من جهة، ومعيقات الواقع المحلي سياسيًا ودينيًا وأهليًا من جهة ثانية، ثمة مسار طويل لا يمكن إنجازه بين ليلة وضحاها، ما يطرح بجدية سؤال المسار والصيرورة.
خلفية تاريخية
لم يوجد المجتمع المدني، فكرًا، وتنظيمًا بمؤسساته وأدوات عملها المختلفة عن البيئتين السياسية الحكومية أو المجتمعية الأهلية، دفعة واحدة كما نراه اليوم في دول العالم المتقدم. فعلى الرغم من أنه وُجد بداية كجملة من المفاهيم والأفكار في بدايات التحول الكبير في عصر الأنوار الأوروبي، في كتابات عدد من المفكرين أمثال جون لوك وتوماس هوبز وجان جاك روسو وأدموند بيرك وإيمانويل كانط؛ إلّا أنه لم يتحقق دفعة واحدة، أو بطريقة خطية أو وفق مسار وحيد؛ كانت صيرورة تحقّقه عبر إجابات متعدِّدة وحوارات متنوعة استهدفت الخروج من عتمة عصر الظلمات الى عصر الأنوار، من مستنقعات التسلط السياسي والديني إلى فضاءات الدولة الحديثة والقانون الوضعي والتعاقد المجتمعي، من أحكام الهيمنة والقداسة على الأفراد والمجتمع، إلى الحرية كحق عام والمجتمع المدني كأسرة كبيرة تتجاوز الأسرة الأهلية، بحسب اصطلاح أدموند بيرك. هذا المسار سؤال الحاضر العربي باختلاف تجاربه ونتائجه، سؤال التجربة والنظرية والنقد والفاعلية والإنجاز.
سؤال التنوير
سؤال التنوير هو عنوان مقالة إيمانويل كانط للإجابة عن سؤال “ما هو التنوير؟” الذي طرحته جريدة بريلبنتش موناتشريفت في عام 1783 على الكتّاب والقراء. كانت بداية التنوير، كما رأى، الجرأة على استخدام العقل “تشجّع على استخدام عقلك وهذا هو التنوير أولًا”، حيث أن استخدام العقل يفضي إلى الحوار حول الأسباب والمعطيات والمعوِّقات، ويقود إلى الفهم المترافق بالإقدام والشجاعة من دون توجيهٍ أو إرغامٍ من سلطة ما، سياسية أو دينية، وإلى مواجهة الصعوبات والمعوِّقات السياسية أو المجتمعية المفروضة على الذات الفردية والمجتمعية.
التنوير Enlightenment إضاءة داخلية، حوار عقلي، قراءة للمعطيات والحوافز، بعيدًا عن القرارات والإملاءات الخارجية. والإنارة إشارة الى إضاءة دروب العتمة التي كانت تعيشها أوروبا متعددة الطرق والأدوات: عتمة سلطات الملك والفرز المجتمعي الساحق للشعوب، عتمة قدسية الكنيسة وطبقتها الحاكمة (الإكليروس) بتحالفها العضوي مع سلطة الملك، وقوانينها الجائرة على الشعوب والحقوق والنزعات الإنسانية. لا يكتفي التنوير باقتحام بيئة السلطات السياسية القائمة والمستفيدين منها: الملك والملكية والاستحواذ، أدوار ووظائف السلطات السياسية والمجتمعية. التنوير يضيء أيضًا على الإيمان كموروث عام مفرقًا بينه وبين الطقوس الدينية ومكاسبها السياسية، ويضيء درب المؤسسات الفكرية والثقافية خارج السلطة وأهوائها ومصالحها، ويفضي إلى الموازنة بين الشرعيات والتخفيف من غلوها.
التنوير سؤال تجلَّت إجابته الزمنية بفكرة التعاقد المجتمعي لدى كلٍّ من هوبز ولوك وروسو: تحقيق الحرية الفردية في سياق الإرادة الجمعية للدولة والمجتمع، حين يتنازل الفرد طوعيًا عن بعض مكاسبه لمصلحة الجميع. وهذه الفكرة تحتاج إلى زمن لا يكفيه عمر ثورة واحدة، فتاريخ أوروبا الحديث لم تنتجه الثورة الفرنسية بمفردها، بل تفاعل الحركة المجتمعية وإجابتها عن سؤال المصلحة العامة، مصلحة الكل المجتمعي، بين السياسة والدين والسلطات المتوارثة.
كانت هناك إجابات وتجارب عديدة خاضتها الشعوب في سبيل تحقيقها للحريات الفردية والعامة، وإن اختلفت نماذج تحقّقها السياسية العامة، بين التجربة الإنكليزية التي أخذت من هوبز تحسين الشروط والمكتسبات الدستورية والحقوقية في ظلِّ سلطة الملك، أو التجربة الأميركية التي أقرت بأحقية الحريات الفردية والدفاع عنها تبعًا للوك، أو الفرنسية التي اتّخذت من الحرية رصيدًا عامًا للتعاقد الرضائي على الشخصية العمومية للهوية التي لا تلغي ولا تستنفد الشخصيات الفردية. لكن هذه التجارب توافقت على آلية الحكم والدستور والقوانين الوضعية تبعًا لروسو، فقد اتفقت جميعها على: الاستقرار في دولة، والحريات العامة والخاصة، ومرجعية القانون الوضعي، وحق الامتلاك والتفكر والتفكير والمبادرة خارج الأطر الحكومية، وتخضع المبادرات الفردية والرسمية الحاكمة للقوانين والدساتير الوضعية. من هنا بدأت المدنية Civilization كجملة من العلاقات بين البشر خارج إطار الهيمنة السياسية والدينية، المدنية كمؤسسات تستهدف المزيد من الحريات والقوانين للصالح العام، أو المزيد من المكاسب الحقوقية بحيث تتحقق العدالة المجتمعية والمساواة الحقوقية، ومعها بدأ الحديث عن تحقّق المجتمع المدني، في مقابل أو مواجهة المجتمع الكنسي أو الديني أو السياسي.
المدنية والشرعية
بحسب كانط، قد تطيح الثورة الاستبداد الشخصي أو السلطة السياسية، وقد تغيِّر النتيجة في طبيعة المصالح المادية، لكن لا يمكنها دائمًا أن تؤدي إلى إصلاح حقيقي في الثقافة والحركة المجتمعية وطباع التفكير. وقد تكون هذه النقطة إحدى أهم الإجابات الراهنة في تجارب الربيع العربي. فقد شكّلت المكاسب السياسية المتمثلة بمرحلة انتقالية أو حكومة أمر واقع أو سلطة تفرض شروطها وسطوتها على من تحكمهم، سمةً عامة، مترافقة باستسهال التغيير، واستبدال شرعية بغيرها، ومستثنية من تفكيرها سؤال استخدام العقل والحوافز الإنسانية وطرق الوصول إلى الاستقرار والتوافق الرضائي على آلية الحكم والاستقرار وتحقيق مصلحة الكل المجتمعي. هنا يبرز سؤال المصلحة وارتباطها بسؤال التنوير؟
قاد انفكاك المصلحة العامة عن سؤال العقل والتنوير إلى نزاع شرعيات متعدِّد الأشكال والمستويات؛ كان متوقعًا ومفهومًا أن تدافع السلطات السياسية في أوروبا، ومثلها الدينية والمجتمعية، عن مواقعها وآليات حكمها أمام الحركة المجتمعية الجديدة. بينما في بلدان الربيع العربي وقعت الحركة المجتمعية ذاتها التي تستهدف بناء الدولة والمجتمع المدني ضدّ الاحتكار والهيمنة، في تنازعٍ على الشرعيات. هنا يغدو مشروعًا أن نتساءل: أين سؤال التنوير، وأين المدنية؟ تنازع الشرعيات هذا يبدو عنوانًا عامًا اليوم بعد ما يزيد على العقد من انطلاق الربيع العربي، ومؤشرات حضوره متعدِّدة الجوانب:
تنازع أيديولوجي حول أحقية مشروع ما في مواجهة غيره، وكان التنازع الأبرز غالبًا هو بين الأسلمة والعلمنة.
تنازع براغماتي نفعي تمثل بالتنافس السلبي على مواقع القيادة السياسية والمنح المالية.
تنامٍ مفرط في منظمات العمل المدني الناشئة، والمنخرطة بنية حسنة أو سوء تقدير أو قلة خبرة، في النزاعات أعلاه.
حضور نزعة إرادوية عالية الشحنة إلى درجة باتت التجريبية تمثل ممارسة عامة، فكان سؤال التجربة والخطأ بديلًا لسؤال التنوير، فغاب العقل وقياس عوامل الزمن والتدرج والتحقق النسبي.
كان لإدموند بيرك، المفكر الإيرلندي، سبق التحذير من ولع الثورين الفرنسين بالتعصب لنظرتهم المثالية وفرض شرعيتهم الثورية المثيرة للفتنة والاضطراب، والتي عبّر عنها في كتابه الأشهر “تأمّلات حول الثورة في فرنسا” عام 1790، والتي قادت إلى عودة الحكم العسكري البونابارتي في حينها. والسؤال الذي تطرحه التجارب العربية، المصرية والسورية بشكل رئيس، وما بينهما من تجارب عربية متنوعة، ماذا حقّق تنازع الشرعيات هذه للثورة أولًا، ولحلم الدولة ثانيًا، وللمجتمع المدني ثالثًا؟ ألم تكن فوضى تنازع الشرعيات الأيديولوجية والبراغماتية والشخصية سببًا معوِّقا لتحقيق أسس التوافق بحدوده الدنيا، سواء أكان على الأدوار المختلفة للسياسة والعمل المدني والمجتمع الأهلي بأبعاده الدينية والمجتمعية، خلاقًا لتطلعات الشباب العصرية والتحررية، فضلًا عن إلغائه إمكان الحوار الطويل والتقدم التدرّجي وفق مراحل زمنية، وخطط مستقبلية على قاعدة التشاركية لا التنافسية السلبية، وتحقيق شرعية خلاف غيرها؟! ألم يكن هذا التنازع مقدمة لعودة حكم العسكر بهذه السطوة، وكأننا لم نقرأ تاريخ فرنسا وثورتها مثلًا؟! واليوم يعود السؤال مرة أخرى إلى تونس التي أنجزت، بتجربة مختلفة نسبيًا، شوطًا في الاستقرار النسبي مدنيًا وسياسيًا، فهل ستعود الشرعية السياسية الأيديولوجية إلى هدم ما بناه التونسيون خلال العقد المنصرم؟
تنازع الشرعيات فعل يتعارض مع المدنية؛ فالمدنية شرطها الأساس التنوع والاختلاف وتحكيم العقل، والشرعية المطلقة تتعارض مع التنوع المفترض مدنيًا. سياسيًا؛ هناك شرعية قانونية نسبية، عددية، تفرزها صناديق الاقتراع، وإن كانت صناديق الاقتراع غير منصفة، مدنيًا وحقوقيًا، خلال المراحل الانتقالية، أمام الكثرة العددية للمنتمين إلى التيارات الإسلامية مثلًا، فهذا لا يعني أن تنقلب المدنية على مبادئها المدنية والتوافقية، ومن ثم تعود إلى فرض الشرعية المطلقة. تتجلى الأسس العامة للمدنية في:
التوافق والحوار.
الاستقلالية السياسية.
الشفافية والعلنية.
الفاعلية التدرجيّة.
الإنجاز المرحلي والاستهداف المستقبلي.
وهذه تختلف جذريًّا عن فرض الشرعية الإرادوية، فمعركة الفكر المدني ومنظماته وأفراده معركة كسب الحقوق المدنية والقانونية، وفي الحصيلة السياسية، وليست معركتها أبدًا مع المجتمع الأهلي المتدين، خصوصًا أن هذا الأخير قابل للتغيّر في مناخ الحريات والقانون. فالمدنية ليست ضد التدين، ولا ضد الثقافات المختلفة، بقدر ما هي الفضاء الأوسع الذي يسعى لتحقيق الحقوق العامة للفرد والمجتمع عامة. فيما تكون معركة الكلّ المجتمعي، مدنيًا وأهليًا وسياسيًا، مع السلطات المغتصبة للحقوق والحريات من جهة، ومع التيارات الدينية المتطرفة التي تريد إنتاج شرعية سلطوية جديدة بعنف أشدٍّ وأوسع مدىً من جهة أخرى.
في الخلاصة
يشير مصطلح المجتمع المدني إلى كلِّ أنواع النشاط التطوعي الذي يستهدف مصالح معينة، وقيمًا وأهدافًا مشتركة، مثل تقديم الخدمات، دعم التعليم المستقل، التأثير في السياسات العامة من خارج دائرة العمل الحكومي لنشر المعلومات حول السياسات، أو ممارسة الضغوط بشأنها أو معاقبة صانعي السياسات أو مكافأتهم)، ما يشجِّع على التضامن والتوافق على الفعل المشترك في مرحلة التغيرات العامة، وهذا يختلف عن التنافس السلبي وتنازع الشرعيات، فمأسسة المجتمع المدني وتكامل أطر عمله التوافقية تمثل الخطر الأكبر على السلطات القائمة، كونها ستتيح القدرة على ممارسة فعلها المختلف عن الهيمنة وتكريس ثقافات الاستحواذ المطلق كما كانت موجات الربيع العربي الأولى. ما يطرح على عاتق الفاعلين في المجتمع المدني، مفكرين ونخبًا سياسية وشبابًا ومنظمات قائمة، جملة من التحديات المرحلية يمكن تكثيفها بـ:
فتح الحوار الشاق والطويل مع البنى المجتمعية الأهلية والدينية.
التوافق على التمسك بالحقوق المدنية والسياسية والتضامن حولها في فعل مجتمعي عام ضاغط على السلطات السياسية.
الابتعاد عن ممارسة الشرعيات وفرض شروطها المولدة للفوضى والتشتت، والابتعاد عن مغريات المكاسب الآنية، سياسيًا وماديًا، على حساب الأهداف العامة المتمثلة بالسير خطوات في طريق التحقّق التدرجي للمجتمع المدني في ظل دولة القانون والحقوق.
العمل على مأسسة العمل المدني وانتزاع حضوره القانوني أيًا كانت السلطة القائمة، واستعادة حركة التنوير المدنية زمام المبادرة لأداء دورها المحوري في الحركة المجتمعية بعدما أثبتت التجربة المعاشة فشل السياسات والأيديولوجيات القائمة في أداء دورٍ مغايرٍ لدور السلطات القائمة.
فهل يمكن لمنظمات العمل المدني في تجارب الربيع العربي أن توائم بين مهمات الفاعلية في التغيير السياسي وما ينتج عنه من اضطراب وفوضى، وبين الاستقرار والأمان الذي يحتاج إليهما المجتمع الأهلي في أثنائه؟! هذا هو سؤال المرحلة الذي ما تزال إجابته غائمة إلى اليوم، ما لم يعد سؤال التنوير إلى مقدمة العمل المدني بما يتضمنه من تحفيز للعقل، وتشجيع على المبادرة، والوقوف على معطيات الواقع، وتقييم النتائج، والبحث الجادّ في مصلحة الكلّ المجتمعي، حقوقيًا ومدنيًا وسياسيًا، إضافة إلى الإدراك العميق والعقلاني لمقاييس الزمن في التدرج النسبي والانفتاح على التجارب المختلفة. هذا إن حصل هذا، فإنه قد يفتح طورًا جديدًا في مسار التحول العربي الراهن يعجِّل في إنجاز المهمات الضرورية، وفي التقليل من تكاليف التغيير والاستقرار التي أرهقت الجميع.

وحدة المقاربات السياسية

تقدِّم وحدة المقاربات السياسية دراسات وقراءات ومقالات سياسية تتناول الواقع السياسي والحوادث السياسية في منطقة الشرق الأوسط بصورة خاصة، والمنطقة العربية عمومًا، إضافة إلى الأوضاع والسياسات الإقليمية والدولية المؤثرة، فضلًا عن تقديم تقرير شهري يرصد تغيرات واقع وأوضاع المنطقة، السياسية والعسكرية والاقتصادية، ويمكن لوحدة المقاربات السياسية أن تستقبل إسهامات من خارج ميسلون تُنشر بأسماء أصحابها في حال كانت متوافقة مع معايير النشر المعتمدة. وتسعى وحدة المقاربات السياسية أيضًا لتقديم مبادرات سياسية إلى القوى والتيارات السياسية وأصحاب القرار في المنطقة، تهدف إلى تقديم مقترحات لحلّ إشكالات سياسية محدّدة، وإلى تعزيز الحوار والعمل الديمقراطي. تجتمع وحدة المقاربات السياسية بشكل دوري مرة كل أسبوع، للتشاور حول الوضع السياسي في المنطقة، ولتكليف أحد أعضائها بكتابة المسودة الأولى للدراسة التالية، وبعد إنجازها توزّع على بقية الأعضاء لوضع ملاحظاتهم، ومن ثمّ تصدر في صيغتها النهائية.

مشاركة: