Search

الفلسفة ليست نشاط أفراد فحسب!

الإجابة عن السؤال الأول

بطبيعة الحال فإنّ إجابة السؤال حول وجود “فلسفة عربية” تتعلق بما قد نعنيه بهذا المصطلح. يشبه الأمر إلى حد بعيد الجدل حول مصطلح “فلسفة روسية” خلال القرن الأخير. ولكن بالعموم يمكن القول إنّه ينبغي للنشاط الفلسفي الذي يميّز فعلًا ثقافة ما أو ثقافات ناطقة بلغة محددة، ومن ثمّ يمكن نسبه إليها، أن ينطلق في أساسه من أسئلة أصيلة تنبثق من هذه الثقافة أو تلك الثقافات، حول الوجود وماهية الإنسان وموقعه في الكون وغاية هذا الوجود وتجسداته ضمن الزمان والمكان في المجتمع والدولة. ولهذا يمكن القول إنّ النشاط “الفلسفي” ضمن الجغرافية الناطقة بالعربية هو فلسفة دينية في المقام الأول، ومعظم استعاراته وتفاعلاته مع الثقافات الأخرى، في العصور الإسلامية وضمن ما يعرف بعصر النهضة، مقيدة بالسؤال الديني، أي بمفاهيم النبوّة وأسئلة الشريعة وحدودها، وبالعلاقة بين الدين والفلسفة، والنبي والفيلسوف، أي أنها نوع من اللاهوت. ولكن يجب علينا ألّا ننسى أنّ الفلسفة لا تظهر في النشاط الفلسفي ذي الطابع النسقيّ المحترف أو في الرسائل الفلسفية الصريحة فحسب. لهذا، حين ننظر مثلًا إلى شعر المعرّي أو المتنبّي وإلى مقابسات ونصوص أبي حيان التوحيديّ والجاحظ نجد سمات فلسفية واضحة قد تختلف قليلًا أو كثيرًا عن الشغل الفلسفي بالمعنى الضيق، ولكنها جديرة بالكشف والاستخراج والتنسيق والدراسة، ومن ثمّ ضمّها إلى الإنتاج الفلسفي العربي أو المكتوب بالعربية.
ومن ناحية أخرى، فالفلسفة من منظور هذا السؤال ليست مجرّد نشاط أفراد، مهما بلغ عدد هؤلاء الأفراد وإمكاناتهم؛ فلكي نتحدث عن فلسفة عربية أو غربية، يجب الحديث عن بُنية تتميز بالاستمرارية والدينامية والصيرورة، أي أن لديها منهج استقبال وأرشفة وتصنيف ومُراكمة ومراجعة، أي بنية تكفل احتضان التحوّلات والبناء عليها وتطبيقها في الحياة اليومية. هذا من ناحية الإطار العام. أما من ناحية روحانية الفلسفة وكينونتها، فلا يمكن تصور ظهور بنية فلسفية من دون مفاهيم الحريّة والشجاعة في حياة الشخص وضمن الثقافة، والتصالح مع لانهائية الأسئلة والإجابات المفتوحة؛ فدينامية البنية الفلسفية تحتاج إلى حرية في الطرح، نابعة من حرية ممارسة الإنسان لخياراته على جميع المستويات ومن شجاعة هذا الإنسان المنبثقة من “شجاعة الثقافة” والمتجاوزة لها. والحرية هي قبل كل شيء ديناميّة وليست مجرد مساحة، أي هي منهج فكري يسعى مع الزمن إلى ازدياد مساحة نشاطه. وعلى هذا فإنّ السؤال عن الفلسفة العربية يجب أن يتحول إلى سؤال عن موقع الحرية والشجاعة، وإمكان وجودهما في حياة الشخص وضمن الثقافة أو الثقافات العربية.

 

الإجابة عن السؤال الثاني

الإجابة القصيرة هي لا، لم ينتهِ دور الفلسفة في عصر العلم. ويمكن هنا التطرق باختصار إلى ثلاث نواحي: الناحية الأولى هي أنّ بعض فروع الفلسفة القديمة، الخاصة بالطبيعة المحسوسة من حولنا، انتهت بالفعل بظهور علوم الطبيعة البيولوجية والفلكية وغير ذلك. ولذلك يمكن النظر إلى هذه الفروع بوصفها مجالات موقّتة انبثقت بشكل طبيعي كإجابات عن أسئلتنا في زمن لم يكن العلم التجريبي قد ظهر فيه بعد. لا بل يمكن النظر إلى هذه الفروع بوصفها ممهدة للعلم المعاصر الذي لا يمكن تخيل ظهوره من دونها. ومن الناحية الثانية فالفلسفة ما زالت موجودة اليوم على المستوى الأكاديمي، فتوسعت مجالات بحثها وتزواجت مع العديد من فروع العلم الأخرى من علوم نفس واجتماع وأحياء وتكنولوجيا وغير ذلك؛ وهذا ما يقودنا إلى الناحية الثالثة، وهي أنّ الفلسفة كما ذُكرت في السؤال الأول هي بنية تفكير، تنشأ ضمنها الأسئلة الأولى الكبرى: أسئلة الماهية والغاية، وأسئلة المنهج وحدوده وإمكاناته ومشكلاته، وهي أسئلة منطقية عقلية تأخذ في حسبانها المعطيات التجريبية. وكمثال على ذلك يمكن النظر إلى مقولات أرسطو وكانط؛ فهي مفاهيم مجرّدة تحدد طرائق أو مدرَكات معينة ’إطاريّة‘ في مرحلة تهيئ لاستقبال البيانات العلمية؛ فعند الحديث عن مفهوم “الماهية” أو “الكمية” أو “البديهي” و”الحدسي”، “الخاص” و”العام”، لا بل حتى “الزمان” و”المكان” و”العقل”، فالحديث هنا يتمّ عن إطارات عمل ذهنية فحسب، وسيتم بالاستناد إليها التعامل مع البيانات التي تؤمنها التجربة العلمية. فلو قلنا في العصر العلمي إنّه لا توجد ماهية على سبيل المثال، فإنّ هذا تعبير فلسفي يمكن لأصحابه أن يدّعوا أن العلم قد رجّح كفّته. ولكن العلم في ذاته لا يجيب على سؤال كهذا، وإنما يمكن لمعطيات علمية وتجريبية معينة أن تسمح للفلسفة نفسها بمراجعة تعريفاتها الأولية ومنطلقاتها التأسيسية وتعديلها حين يستلزم الأمر.
هذا من ناحية الفلسفة بمفهومها النسقيّ الأكاديميّ، أما من ناحية مفهومها الوجوديّ بوصفها محبّة خالصة للحكمة، فهي باقية ما بقي الإنسان وأسئلته عن الحياة والموت والمعنى والغاية. وهنا يمكن الحديث عن الفلسفة الشخصية لكل إنسان يبحث عن معنى لحياته. وتصبح الفلسفة بهذا المعنى منهج الحياة واختيارات الإنسان في النطاق اليومي وعلى المدى الطويل. إنّه سؤال القيم والأخلاق، والتي وإن أسَّست فروعًا في الفلسفة الأكاديمية إلا أنها تبقى منغرسة في الحياة الشخصية للإنسان الفرد أولًا.

 

الإجابة عن السؤال الثالث

في البداية أنا لا أتعامل مع عبارة “حلّ المشكلات” بأريحية كاملة؛ ففي هذه العبارة نوع من الإطلاق الذي يبدو مثاليًا بعض الشيء إذا ما فهمناها بصورة حرفية وتعميمية؛ فيمكن بالطبع الحديث عن حل مشكلات الكهرباء والوقود، ولكن الحديث عن حلّ مشكلات أخرى ذات طابع ثقافي أو قيميّ يبدو اختزاليًا، فالمشكلات الثقافية لا تُحَلّ بقدر ما يمكن تخفيف حدّتها.
وعلى أي حال، فبعض المشكلات “الصغرى”، كإصلاح طريق بعد انهيار صخري، تحتاج بالفعل إلى ممارسة واقعية فورية قدر الإمكان، ولكن المشكلات الأكبر، المتعلّقة بقيم مجتمع ما أو مسيرة سياسية معينة تحتاج بالفعل إلى عمل على مستوى المفاهيم والمقولات ومناهج التفكير، وهذا هو عمل الفلسفة. ولكن هل يمكن بالفعل فصل الأمور إلى مشكلات صغرى وكبرى؟ الحقيقة أنّ الأمر ليس بهذه السهولة؛ فحتى المشكلات الصغرى ذات جذور ضمن مشكلات أخرى أكبر. إنّ الأعمال البلدية التي تبدو بسيطة وبديهية للعقل الحديث منغرسة بعمق في بنى أخلاقية وفكرية مضمرة، كما أنها ذات بعد جماليّ يتعدى مجرد الوجود الوظيفي لها. فعلى سبيل المثال، يمكن لبلدية مدينة ما يتوافر لديها فائض من المال (دعونا نتخيّل هذا!) أن تشق طريقًا باستعمال ما يكفي من المال، ثم يتقاسم أعضاؤها الكمية المتبقية منه؛ كما يمكنها أن تختار شقّ الطريق وإنفاق باقي المال على تجميله أو على القيام بمبادرة لتشجيع الأهالي على زراعة الأزهار أمام بيوتهم على جانبي هذا الطريق. الأمر كله يتعلق بالفلسفة الأخلاقية والجمالية، والتي بدورها متجذرة في فلسفة أعمق متعلقة بمفهوم الإنسان وماهيته وحقوقه وطبيعة وجوده الاجتماعي، إضافةً إلى مفهوم المدينة وماهيتها وعلاقاتها البينية والفرق بينها وبين القرية الكبيرة، ومن ثم الدولة وعلاقتها بالإنسان.
لقد تقصدت أن أضرب هذا المثال البسيط من دون مناقشة نظرية مطوّلة، وذلك لأجيب عن سؤال الواقع والثقافة بمثال من الواقع والثقافة. وبهذه الطريقة يمكن قياس الممارسة السياسية، فعلى الرغم من المعوقات السياسية الخارجية والتقنية الاقتصادية والمالية كلها، فإنّ اختلاف الفلسفة السائدة في المجتمع والحكم يعني بالضرورة اختلافًا في النتائج وفي طريقة التعامل مع المشكلات على اختلاف أصنافها.

فادي أبو ديب

شاعر وكاتب ومترجم سوري، له خمسة دواوين شعرية مطبوعة، هي: (صلوات غنوصيّ سوريّ، الأردن: دار فضاءات، 2016)، (ميامر الحجرة العرائسية: مدخل إلى المثالية-الواقعية السّحرية، الأردن: دار فضاءات، 2017)، (السّيرة النجميّة لقسطون الذّاهِل، الأردن: دار فضاءات، 2018)، (السماء ترتّب بيتها لآخر مرّة، الجزائر: دار الأمل، 2018)، (حرّاث العوالم: زائر القرى النائمة، الأردن: دار فضاءات، 2021). ترجم العديد من الأعمال، آخرها عملان بعنوان “يتيم أسرة تشاو” و”القيم الجوهرية للحضارة الصينية” (قيد الإصدار عن دار فضاءات الأردنية). طالب دكتوراه يتخصّص في مجال الفلسفة الدينية للفيلسوف الروسي فلاديمير سولوفيوف (1853-1900). ويعمل مدرّسًا للّغة العربية في جامعة دالارنا السويدية. كاتب وعضو هيئة استشارية في مجلة “مثاقفات” الصادرة في بريطانيا.

مشاركة: