Search

الحق بالزواج في التشريع السوري؛ تناقض النص والتفسير

ملخص

تبحث هذه الدراسة في مدى انسجام القواعد القانونية الناظمة لعقد الزواج وآثاره في القانون السوري من جهة مع النص الدستوري، ومع الالتزامات الدولية التي أقرتها الدولة السورية من جهة مقابلة. وإذا كانت معظم الدراسات السابقة تسلط الضوء على حقوق المرأة، أو على ضرورة الزواج المدني ومدى توافقه مع القانون المحلي، أو على المقارنة بين الزواج المدني ونظيره الديني، وإظهار محاسن ومساوئ كل منهما، فإننا سنعتمد في هذه الورقة على البحث في مواقع التناقض بين القواعد القانونية السارية، وسوء تفسيرها، وسنبين تأثير ذلك في حق الفرد بالمساواة وعدم التمييز بسبب الدين أو الجنس حصرًا، من دون التعرض لغير ذلك من الأسباب.

أهمية الدراسة: تأتي أهمية البحث من ضرورة وجود بيئة تشريعية تحقق الانسجام والتوافق على مستويين، أولًا في ما بين النصوص القانونية الوطنية بحد ذاتها، ثانيًا بين تلك النصوص والنصوص الدولية التي التزمت بها الدولة السورية، كل ذلك بما لا يتناقض مع المبادئ الدستورية في قضايا المساواة وعدم التمييز.

إشكالية الدراسة: تنحصر إشكالية الدراسة في نقطتين: أولًا في مدى التناقض الذي ينضوي عليه النص القانوني الناظم لعقد الزواج، وتأثير ذلك على مبادئ المساواة وحرية الاعتقاد كحقوق دستورية، وكجزء جوهري من مفهوم المواطنة. ثانيًا في إغفال إعمال البدائل القانونية التي من الممكن أن تحقق الانسجام بين التشريع الوطني والقانون الدولي وخصوصية المجتمع السوري. وللوصول إلى غاية هذه الدراسة سنحاول الإجابة عن الأسئلة التالية:

  • ما هي النصوص الدولية والدستورية التي عالجت قضية الحق بالزواج؟
  • هل تتوافق النصوص القانونية الوطنية مع الدستور والاتفاقات الدولية التي أقرتها الدولة السورية؟
  • ما هي الآثار الناجمة عن النص القانوني ومدى انسجامه مع مبادئ حقوق الإنسان والمواطنة؟
  • ما هي الوسائل المتاحة لمواجهة الإشكالية التي تطرحها الدراسة؟

منهجية الدراسة: سيتم اعتماد المنهج الوصفي التحليلي، بحيث سنستعرض بعض النصوص والتشريعات والآراء الفقهية التي عالجت قضية الحق بالزواج مع ما يتطلبه ذلك من شروح وبيانات، ومن ثم تحليل تلك النصوص والبحث في نقاط تعارضها مع كل من النص الدستوري والنص الدولي، وصولًا إلى نتائج الدراسة، وأخيرًا وضع الاقتراحات التي نعتقد أنها تستجيب للإشكالية المطروحة.

ومن أجل الوصول إلى غايتنا، تم تقسيم هذه الدراسة إلى قسمين؛ القسم الأول يبحث في الإطار النظري لمفهوم الحق بالزواج في فصلين، الفصل الأول يتناول النصوص الدولية التي تصدت لقضية الحق بالزواج، أما الثاني فيدرس النصوص الدستورية السورية التي عالجت هذا الحق. يقدم القسم الثاني بعض القواعد القانونية الناظمة لعقد الزواج، ويبين مدى توافقها مع النص الدستوري والدولي في فصلين أيضًا، الأول يتناول حالات محددة من التعارض بين القانون الوطني وبين الدستور والنص الدولي، ويبحث الفصل الثاني في مدى شرعية وإلزامية تلك النصوص ومجال تطبيقها. يتبع ذلك عرض للقواعد القانونية التي تجيز، في رأينا، عقد الزواج المدني في سوريا، قبل أن تنتهي الدراسة ببعض المقترحات.

الكلمات المفتاحية: الزواج في القانون السوري، الحق بالزواج، الزواج المدني، الزواج المختلط، الأحوال الشخصية، الأهلية في الزواج، الولاية على المرأة، زواج الأطفال، نظام الطوائف، المحاكم الروحية، المحكمة المذهبية.

 

 

مقدمة

يرتكز نظام الأحوال الشخصية في سوريا على مجموعة من القوانين المختلفة بحسب دين أو طائفة أو اعتقاد الزوجين، إذ ليس هناك من مرجعية قانونية واحدة يخضع لها جميع السوريين في قضايا الأحوال الشخصية. تجري عقود زواج المسلمين أمام المحاكم الشرعية وبحسب نصوص قانون الأحوال الشخصية، بينما يخضع أتباع الطوائف المسيحية لقوانين مختلفة بحسب طائفة كل منهم وأمام كنائس مختلفة. كذلك يخضع أتباع الطائفة الدرزية لقواعد قانونية خاصة بهم وأمام محكمة مستقلة، والأمر سيان في ما يتعلق بأتباع الطائفة اليهودية، في حين ظل أتباع الطوائف غير المعترف بها يلجؤون إلى القضاء المدني لتوثيق عقد الزواج حتى وقت قريب، بينما ظل القضاء المدني مختصًا بالنظر في قضايا الأحوال الشخصية الخاصة بالأجانب الذين يخضعون في بلادهم للقانون المدني. وكما تختلف القواعد الناظمة لعقد الزواج، تختلف أيضًا القواعد القانونية الناظمة لآثار أو نتائج هذا العقد، فهي مختلفة في مسائل الطلاق، والنفقة، ومدى سلطة الزوج، وتبعية الزوجة، والإرث، وغيرها من القضايا.

وعلى الرغم من الاختلافات الواسعة التي تشوب هذه القوانين إلا أنها تشترك جميعًا في ناحيتين: أولًا في النص على قواعد تميز بين الجنسين وبين المواطنين بحسب ديانة أو مذهب أو اعتقاد كل منهم. ثانيًا في كونها تستند في علاج الكثير من المسائل إلى مفاهيم دينية ووضعية مختلطة ومتناقضة في آن.

ورث المشرع السوري هذا التوجه، في قضايا الأحوال الشخصية، عن النظام العثماني. فظل العمل ساريًا بموجب قانون الحق العائلي العثماني الصادر في العام 1915، ومن ثم بقانون التنظيم القضائي لعام 1919، حتى صدور المرسوم التشريعي 59 لعام 1953 المتضمن قانون الأحوال الشخصية المعمول به اليوم، والذي يمكن عدّه نسخة مقننة عن التشريع العثماني، وفق ما تشير إليه أسبابه الموجبة[1]، وذلك على الرغم من إبطال العمل بالأحكام الشرعية، في ما بعد، في الجمهورية التركية واستبدالها بالقانون المدني في عشرينيات القرن الماضي.

في المقابل، دأبت الدساتير المتعاقبة في سوريا على التأكيد على مبدأ المساواة بين جميع السوريين من دون النظر إلى طائفة أو جنس أي منهم، لكن في الواقع، وحتى اليوم، ظل هذا الـتأكيد ضمن حدوده اللفظية، بل يمكن القول، كما سنرى في هذه الدراسة، إن الدولة السورية قد اتبعت سياسة تشريعية متناقضة، عندما تبنت قوانينها قواعد متعارضة في غاياتها ومع العناوين الدستورية العريضة، ومع الالتزامات الدولية التي أقرتها الدولة السورية، ما أدى إلى إفراغ كل من النص الدستوري والتزامها القانوني الدولي من مضمونهما، ما نتج عنه نشوء حالة بنيوية من التمييز الطائفي والجندري.

 

 

 

القسم الأول

تجمع مختلف الشرائع الدينية والوضعية على حق الإنسان بالزواج، وتذهب معظم تلك الشرائع إلى التشجيع على الزواج وبناء الأسرة، حتى باتت هذه القضية من بين القضايا التي تتمسك بها المعاهدات والاتفاقيات الدولية بوصفها حقًا أساسيًا من حقوق الإنسان. وقد تناولتها مختلف الدساتير الوطنية بنصوص خاصة، وجعلت منها إحدى مسؤوليات الدولة تجاه المواطن والمجتمع.

 

الفصل الأول، الحق بالزواج في القانون الدولي

– “القانون الدولي لحقوق الإنسان هو مجموعة القوانين الدولية التي تضع معايير وحقوق مضمونة لجميع البشر. من المفهوم عمومًا أن القانون الدولي لحقوق الإنسان ينبع من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي اعتمد في عام 1948 بعد الحرب العالمية الثانية. وفي حين أن الوثيقة نفسها ليست ملزمة، إلا أنها مهدت الطريق لمعاهدات ملزمة في المستقبل تحدد العديد من الحقوق. بعض العلماء يقرون بأن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يشكل الآن قانونًا دوليًا عرفيًا. إضافة إلى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان”[2].

لقد أكد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في المادتين الأولى والثانية أن حرية الإنسان صفة طبيعية ملتصقة بوجوده، وأن جميع الناس متساوون في الكرامة والحقوق دون تمييز من أي نوع. في حين تؤكد جميع مواد هذا الإعلان الثلاثون على المساواة بين الناس، تذهب المادة السابعة البحث في بشكل خاص مبدأ المساواة أمام القانون. وبشكل منسجم مع ما سبق من مواد، قدمت المادة 16 الحق بالزواج كأحد حقوق الإنسان الرئيسة وهي تنص على أن:

  1. للرجل والمرأة، متى أدركا سنَّ البلوغ، حقُّ التزوُّج وتأسيس أسرة، دون أيِّ قيد بسبب العِرق أو الجنسية أو الدِّين. وهما متساويان في الحقوق لدى التزوُّج وخلال قيام الزواج ولدى انحلاله.
  2. لا يُعقَد الزواجُ إلاَّ برضا الطرفين المزمع زواجهما رضاءً كاملً لا إكراهَ فيه.
  3. الأسرةُ هي الخليةُ الطبيعيةُ والأساسيةُ في المجتمع، ولها حقُّ التمتُّع بحماية المجتمع والدولة[3].

 

– ينص العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لعام 1966[4] في الفقرة الأولى من المادة الثانية منه على تعهد الدول الأطراف باحترام الحقوق المعترف بها في هذه الاتفاقية دون أي تمييز بسبب العرق، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدين، أو الرأي سياسيًا، أو غير سياسي، أو الأصل القومي، أو الاجتماعي، أو الثروة، أو النسب، أو غير ذلك من الأسباب. وهو ينص في الفقرة الثانية من المادة نفسها على تعهد الدول الموقعة باتخاذ تدابير تشريعية تكفل احترام تلك الحقوق إذا ما كانت تشريعاتها لا تكفل ذلك. ثم أكدت المادة الثالثة منه على المساواة المطلقة في الحقوق والواجبات بين الجنسين. المادة الثالثة والعشرون تضمنت نصًا خاصًا بالأسرة والزواج[5]، وتحسم الفقرة الرابعة منها قضية الحقوق والواجبات الزوجية بتعهد الدول الموقعة باتخاذ ما يلزم من إجراءات من أجل تحقيق المساواة التامة بين الزوجين[6]. المادة السادسة والعشرون تناولت قضية المساواة أمام القانون، وهي تنطلق من قاعدة أن الناس جميعًا يتمتعون بحقوق متساوية، وبالتالي يجب أن يحظر القانون أي تمييز وأن يكفل لجميع الأشخاص على السواء حماية فعالة من التمييز لأي سبب، كالعرق، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدين، أو الرأي السياسي، أو غير السياسي، أو الأصل القومي، أو الاجتماعي، أو الثروة، أو النسب، أو غير ذلك من الأسباب[7].

خُصِّصت المادة 23 للبحث في قضايا حقوق الأسرة ومن بينها الحق بالزواج والحقوق والواجبات بين الزوجين وهي تنص على ما يلي:

  1. الأسرة هي الوحدة الجماعية الطبيعية والأساسية في المجتمع، ولها حق التمتع بحماية المجتمع والدولة.
  2. يكون للرجل والمرأة، ابتداء من بلوغ سن الزواج، حق معترف به في التزوج وتأسيس أسرة.
  3. لا ينعقد أي زواج إلا برضا الطرفين المزمع زواجهما رضاء كاملًا لا إكراه فيه.
  4. تتخذ الدول الأطراف في هذا العهد التدابير المناسبة لكفالة تساوى حقوق الزوجين وواجباتهما لدى التزوج وخلال قيام الزواج ولدى انحلاله. وفي حالة الانحلال يجب اتخاذ تدابير لكفالة الحماية الضرورية للأولاد في حالة وجودهم[8].

 

– تعرف المادة الأولى من الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة لعام 1979، التمييز ضد المرأة على أنه أي تفرقة أو استبعاد أو تقييد يتم على أساس الجنس ويكون من آثاره أو أغراضه، توهين أو إحباط الاعتراف للمرأة بحقوق الإنسان والحريات الأساسية في مختلف الميادين[9]، وتنص في المادة الثانية منها على تعهد الدول الموقعة باتخاذ ما يلزم من الإجراءات التشريعية للقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، وعلى أن تضمن تلك التشريعات حق المساواة التامة بين الرجل والمرأة في مختلف الميادين[10]. تتناول المادة 16 قضية الزواج بنص خاص وهي تنص على أن:

  1. تتخذ الدول الأطراف جميع التدابير المناسبة للقضاء على التمييز ضد المرأة في جميع الأمور المتعلقة بالزواج والعلاقات العائلية، وبوجه خاص تضمن، على أساس المساواة بين الرجل والمرأة:

(أ) الحق نفسه في عقد الزواج،

(ب) الحق نفسه في حرية اختيار الزوج، وفى عدم عقد الزواج إلا برضاها الحر الكامل،

(ج) الحقوق والمسؤوليات نفسها أثناء الزواج وعند فسخه،

(ح) الحقوق والمسؤوليات نفسها بوصفهما أبوين، بغض النظر عن حالتهما الزوجية، في الأمور المتعلقة بأطفالهما وفى جميع الأحوال، يكون لمصلحة الأطفال الاعتبار الأول،

(هـ) الحقوق نفسها في أن تقرر، بحرية وبإدراك للنتائج، عدد أطفالها والفاصل بين الطفل والذي يليه، وفى الحصول على المعلومات والتثقيف والوسائل الكفيلة بتمكينها من ممارسة هذه الحقوق،

(د) الحقوق والمسؤوليات نفسها في ما يتعلق بالولاية والقوامة والوصاية على الأطفال وتبنيهم، أو ما شابه ذلك من الأعراف، حين توجد هذه المفاهيم في التشريع الوطني، وفى جميع الأحوال يكون لمصلحة الأطفال الاعتبار الأول،

(ز) الحقوق الشخصية نفسها للزوج والزوجة، بما في ذلك الحق في اختيار اسم الأسرة والمهنة ونوع العمل،

(ح) الحقوق نفسها لكلا الزوجين في ما يتعلق بملكية وحيازة الممتلكات والإشراف عليها وإدارتها والتمتع بها والتصرف فيها، سواء بلا مقابل أو مقابل عوض.

  1. لا يكون لخطوبة الطفل أو زواجه أي أثر قانوني، وتتخذ جميع الإجراءات الضرورية، بما في ذلك التشريعي منها، لتحديد سن أدنى للزواج ولجعل تسجيل الزواج في سجل رسمي أمرًا إلزاميًا[11].

 

وهكذا نجد أن القانون الدولي يتخذ موقفًا حاسمًا في قضية الحق بالزواج، فهو يحظر أي شكل من أشكال التمييز وعدم المساواة بين الزوجين، ويحمل الحكومات الوطنية مسؤولية تحديث بيئتها التشريعية بما لا يتعارض أو يتناقض مع التزاماتها الدولية، وهو ويؤكد في مختلف نصوصه على شمولية نطاق تطبيقه. إذ يتطلب احترام الحق بالمساواة وعدم التمييز بين الجنسين، أو غيره من الحقوق المنصوص عنها في القانون الدولي، أن يتم التعامل مع جميع الأفراد انطلاقًا من قاعدة قانونية واحدة في كافة المجالات، بما فيها عقد الزواج والعلاقة الزوجية، دون أي تمييز بسبب العقيدة أو الجنس، وذلك بما يحقق الانسجام وعدم التناقض بين مختلف النصوص الدولية، وهذا ما تبناه القانون الدولي في طرح قضية الحق بالزواج كحق من حقوق الإنسان.

 

الفصل الثاني، الحق بالزواج في الدستور السوري

نصّ الدستور السوري على مبدأ المساواة بشكل صريح في موقعين منفصلين، الأول في المادة 19 تحت فصل المبادئ الاجتماعية من الباب الأول “يقوم المجتمع في الجمهورية العربية السورية على أساس التضامن والتكافل واحترام مبادئ العدالة الاجتماعية والحرية والمساواة وصيانة الكرامة الإنسانية لكل فرد.”[12]، أما الثاني فجاء في الفقرة الثالثة من المادة 33 تحت فصل الحقوق والحريات من الباب الثاني ” 3- المواطنون متساوون في الحقوق والواجبات، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة.[13]“.

وفي الواقع، لا يختلف الدستور الحالي، وكل ما سبقه من دساتير، في الموقف من مفهوم المساواة عن التوجه الذي أخذ به القانون الدولي، إذ يكاد يخلو هذا الدستور من أي شكل من أشكال التعبير عن عدم المساواة والتمييز، باستثناء ما ورد في الديباجة وفي المادة الأولى من تأكيد على الهوية الثقافية العربية ومن تجاهل لغيرها من الثقافات[14]، وكذلك ما ورد في نص المادة الثالثة عن تحديد دين رئيس الدولة، ومن فصل طائفي للأحوال الشخصية[15]. ونحن نعتقد أن الاستثناءات، التي ذكرناها سابقًا، تلقي بظلال من عدم الوضوح في الموقف الدستوري من قضية المساواة[16].

تناول الدستور السوري قضية الزواج في موقعين مختلفين من فصوله. حيث تناولها بشكل غير مباشر في الشطر الأخير من المادة الثالثة منه في الفصل الأول المبادئ السياسية في الباب الأول، عندما نص على أن: “الأحوال الشخصية للطوائف الدينية مصونة ومرعية[17]. ثم قدم قضية الحق بالزواج في المادة 20 من الفصل الثالث المبادئ الاجتماعية في الباب الأول، حيث نص على ما يلي:

  1. الأسرة هي نواة المجتمع ويحافظ القانون على كيانها ويقوي أواصرها.
  2. تحمي الدولة الزواج وتشجع عليه، وتعمل على إزالة العقبات المادية والاجتماعية التي تعوقه، وتحمي الأمومة والطفولة، وترعى النشء والشباب، وتوفر لهم الظروف المناسبة لتنمية ملكاتهم[18].

بداية، وقبل البحث في دلالات النص، من اللافت في الدستور السوري تناوله لقضية الأحوال الشخصية في فصل المبادئ السياسية، إذ يدفعنا هذا الإقحام إلى التساؤل عن الرابط القانوني أو المنطقي بين المبادئ السياسية وقضية اجتماعية كقضية الأحوال الشخصية! ونعتقد أن من المهم، قبل الشروع في محاولة تفسير هذا التوجه في أسلوب كتابة الدستور، التوقف عند توضيح مفهوم الأحوال الشخصية، حتى نتمكن من فهم السياق العام لهذا التساؤل.

لا يعرّف القانون السوري مفهوم الأحوال الشخصية، ولكن يمكننا القول إن قانون الأحوال الشخصية هو مجموعة القواعد القانونية التي تنظم علاقة الأفراد في ما بينهم من حيث صلة النسب والزواج وما ينشأ عنه من مصاهرة وولادة وولاية وحضانة وحقوق وواجبات متبادلة وما قد يعتريها من انحلال تترتب عليه حقوق في النفقة والحضانة والإرث والوصية.[19] الأحوال الشخصية، اصطلاح تعني الأوضاع التي تكون بين الانسان وأسرته، وما يترتب على تلك الأوضاع من آثار حقوقية والتزامات أدبية أو مادية[20]، أي المركز القانوني للأشخاص في الأسرة. في الواقع يشكل عقد الزواج حجر الأساس في مفهوم الأحوال الشخصية، بوصفه التصرف القانوني الأول المنشئ لما يليه من تصرفات وآثار قانونية كثبوت النسب والطلاق والإرث والوصاية والولاية وغيرها. بكلام آخر، فإن عقد الزواج وما ينتج عنه من آثار تؤلِّف جميعها ما اتفق الفقهاء على تسميته بالأحوال الشخصية[21]. بالتالي، فإن الإشارة إلى مسألة الأحوال الشخصية تتضمن حكمًا الإشارة إلى عقد الزواج، وهذا الأخير هو في جوهره تعبير عن الصيغة القانونية الناظمة للحق بالزواج. إن هذا الاستنتاج الأخير هو ما يحتِّم علينا طرح العديد من التساؤلات وإشارات التعجب حول سبب طرح قضية الأحوال الشخصية في فصل المبادئ السياسية في الدستور السوري.

خلافًا للمنهج الذي اتبعه واضع دستور 2012، فقد وردت قضية الأحوال الشخصية في دستور 1920 في الفصل الثالث: في حقوق الأفراد والجماعات في المادة 14: “كيفية إدارة المحاكم الشرعية والمجالس الطائفية التي تحسب شرائعها في الأحوال الشخصية المذهبية وكيفية إدارة الأوقاف العامة تعيًن بقوانين تصدر من المؤتمر”[22]. ثم تناولها دستور 1930 في الفصل الثاني في حقوق الأفراد في المادة 15 إذ ينص على أن “حرية الاعتقاد مطلقة. وتحترم الدولة جميع المذاهب والأديان الموجودة في البلاد وتكفل حرية القيام بجميع شعائر الأديان والعقائد على ألّا يخلّ ذلك بالنظام العام ولا ينافي الآداب وتضمن الدولة أيضًا للأهلين على اختلاف طوائفهم احترام مصالحهم الدينية وأحوالهم الشخصي“.[23]

شكل دستور 1950 السابقة التاريخية الأولى في إقحام قضية الأحوال الشخصية ضمن المبادئ السياسية، فجاء في الفصل الأول في الجمهورية السورية، المادة الثالثة ما يلي:

دين رئيس الجمهورية الإسلام.

الفقه الإسلامي هو المصدر الرئيس للتشريع.

حرية الاعتقاد مصونة والدولة تحترم جميع الأديان السماوية وتكفل حرية القيام بجميع شعائرها على ألّايخلَّ ذلك بالنظام العام. الأحوال الشخصية للطوائف الدينية مصونة ومرعية.[24]

ثم يعود هذا الدستور لتقديم قضية الأسرة والحق بالزواج في المادة 32 تحت الفصل الثاني المبادئ الأساسية، إذ ينص على أن:

الأسرة هي الركن الأساسي للمجتمع، وهي في حمى الدولة.

تحمي الدولة الزواج وتشجع عليه وتزيل العقبات المادية والاجتماعية التي تعوقه.[25]

لقد كان حريًا بواضع هذا الدستور الإشارة إلى قضية الأحوال الشخصية ضمن المادة 32 التي تناولت الحق بالزواج، بدلًا من حشرها في الفصل الأول في تعريف الجمهورية السورية. ولفهم الأسباب التي دفعت إلى هذا الشكل الفوضوي في النص، وإلى هذا الخلط بين قضايا سياسية سيادية وبين قضايا اجتماعية، كان لا بدّ من العودة إلى النقاشات التي رافقت كتابة هذ الدستور، وهي تشير إلى أن انقسامًا وقع ضمن أعضاء الجمعية التأسيسية حول هوية الدولة، بين تيار إسلامي وآخر ليبرالي، ومع إصرار التيار الإسلامي على التمسك بإبراز الهوية الدينية الإسلامية للدولة، كان لا بدّ   من الإشارة إلى قضية الأحوال الشخصية ضمن تعريف الجمهورية، باعتبار أن تلك الإشارة تشكل ضمانة دستورية باحترام حقوق الأقليات الدينية وخصوصيتها الاجتماعية والقانونية. بالتالي، فإن حقيقة ما جرى خلال تلك النقاشات الحادة والمفاوضات الصعبة داخل الجمعية التأسيسية وخارجها حول نص المادة الثالثة[26]، إنما هو استغلال لقضية الأحوال الشخصية واستثمارها كورقة سياسية في المساومة على صوغ تلك المادة، فكانت النتيجة أن أصبحت كل مجموعة طائفية تخضع في شؤونها العائلية الخاصة للمؤسسة الدينية التي تمثلها، من خلال إخضاع قضية الزواج وآثاره لولاية واختصاص هذه المؤسسات. وبذلك تكون الزعامات الدينية وما يقف خلفها من مؤسسات ومنظمات قد ضمنت لنفسها الحفاظ على مراكز نفوذ سياسي واجتماعي في مقابل القبول بالنص الدستوري المقترح.

غابت تمامًا الإشارة إلى قضية الأحوال الشخصية في دستور1973، لكن ذلك لم يغير من استمرار العمل بالصيغة الطائفية ذاتها في قضايا الأحوال الشخصية على المستويات القضائية والقانونية والاجتماعية، بما لا يختلف عما ورد في دستور 1950. في العام 2012 أعاد الدستور الأخير النص على هذه القضية في المادة الثالثة دون أي مبررات دستورية أو تشريعية لهذه الإشارة[27].

بالعودة إلى النص الفقرة الثانية من المادة 20 في الدستور الحالي، يتناول واضع الدستور قضية الحق بالزواج بتعابير غير حاسمة المعاني. إذ بدلًا من التصريح والاعتراف بحق كل مواطن بالزواج دون أي تمييز، وبما ينسجم مع ما نصه حول الحق بالمساواة وحرية اعتقاد في مواقع أخرى من مواده، نجد أنه يستخدم عبارات فضفاضة وغير محددة، إذ يقول: “تحمي الدولة الزواج وتشجع عليه، وتعمل على إزالة العقبات المادية والاجتماعية التي تعوقه[28].

إذا ما تناولنا الشطر الأول من النص، والذي يتحدث عن حماية الزواج، فإنه، أي النص، لا يبين ماهية الزواج الذي تحميه الدولة، فهل هي تحمي أي زواج، بغض النظر عن السلطة التي أجازته؟ أم أنها تحمي زواجًا محددًا؟ ثم إنه لا يتحدث عن حماية الحق بالزواج، إنما عن حماية الزواج، أي الزواج الواقع فعلًا. وإذا ما ربطنا ما ورد في المادة الثالثة حول أن “الأحوال الشخصية للطوائف مصونة ومرعية” مع ما جاء في المادة 20، يصبح المعنى الظاهر من عبارة “الدولة تحمي الزواج” هو أن الدولة تحمي الزواج الذي أقرته السلطات الدينية لا غيره، باعتبار أن هذه السلطات تملك حق إجازة عقود الزواج عملًا بالمادة الثالثة، وذلك وفقًا لما بينّاه بالمقصود بعبارة الأحوال الشخصية، وهو عقد الزواج بذاته مع ما ينتج عنه من آثار، لكن بمزيد من التحليل والرابط مع نصوص أخرى سنجد أن النص يحمل معانيَ أوسع من مجرد حصر سلطة عقد الزواج بالأحوال الشخصية للطوائف. وهذا ما سنبينه لاحقًا.

بالعودة إلى الشطر الثاني من المادة 20، والتي تتحدث عن أن الدولة تعمل على إزالة العقبات المادية والاجتماعية التي تعيق الزواج، نجد ألّا حاجة للدخول في تحليل النص ومجادلته قانونيًا، بل سيكون كافيًا طرح بعض الأمثلة لإثبات التناقض، فهناك الكثير من العقبات التي تعوق، أو قد تحرم، المواطن السوري من حقه بالزواج، وهي عقبات ينص عليها القانون ويحمي استمراها، وهي تستند بشكل ما في شرعيتها إلى تفسير نص المادة الثالثة حول مسألة الأحوال الشخصية وخضوعها للمؤسسات الدينية. فمن الناحية المادية، يمكننا طرح قضية المهر كواحدة من أبرز المعضلات التي تواجه المواطن السوري الراغب في الزواج، ومع ذلك ما زالت النصوص القانونية لا تتصدى لهذه المسألة بل تكرسها وتحميها. أما من الناحية الاجتماعية فإن القانون السوري ما زال ينص على شرط الكفاءة بين الزوجين، بما يعني الترخيص بممارسة شكل من أشكال التمييز الطبقي أو العرقي، وهذا بحد ذاته يشكل تعارضًا مع نصوص أخرى في الدستور. كما يمكن أن نورد مثالًا آخرَ حول وهو بطلان زواج المسلمة بغير المسلم، أو بطلان زواج الدرزي أو الدرزية بشخص من خارج أبناء الطائفة. إذًا مرة أخرى تتناقض النصوص الدستورية في ما بينها، وذلك عندما تنص على ما يجيز خرق مبدأ حرية الاعتقاد. والواقع أنه من غير الممكن، بحسب التفسير السائد والغير دقيق لنص المادة الثالثة، إزالة هذه العقبات، الأمر الذي يجعل من الشطر الثاني من المادة 20 مجرد زخارف لغوية بدون أي قيمة قانونية، وسنتناول هذه القضايا بتفصيل أوسع في ما سيأتي من هذه الدراسة.

كنتيجة نهائية لهذا الفصل، ووفقًا للتراكيب والعبارات المبهمة الواردة في النص الدستوري، ونتيجة لما سبق من بحث في دلالات النص وتحليله وما طرحناه من أمثلة، واستنادًا إلى التفسير الضيق الذي يأخذ به القضاء السوري، باعتبار المحاكم الشرعية والمذهبية والروحية، هي وحدها المحاكم المخولة بالنظر في قضايا الزواج، يمكننا القول إن الدستور السوري لا يقر بالحق بالزواج، ولا يعدّه حقًا أساسيًا من حقوق الإنسان، وفي هذا تناقض مباشر مع النصوص الدولية التي أقرتها الدولة السورية وأعلنت التزامها بها.

 

القسم الثاني

 

الفصل الأول، النص الناظم لعقد الزواج

سنتناول في هذا الفصل قوانين الأحوال الشخصية في سوريا، وكما وضحنا في مقدمة هذه الدراسة، تخضع كل طائفة لقانون خاص بها ينظم شؤون الأحوال الشخصية فيها، وبحسب الجدول الملحق بالقرار 60 ل.ر صادر عن المندوب السامي الفرنسي في العام 1936، وبدلالة المادة 36 من قانون السلطة القضائية، يبلغ عدد الطوائف المعترف بها رسميًا في سوريا اثنتي عشر طائفة، وهي الطائفة المارونية، طائفة الروم الأرثوذكس، طائفة الروم الكاثوليك، طائفة الأرمن الكاثوليك، طائفة الأرمن الأرثوذكس، طائفة السريان الأرثوذكس، طائفة السريان الكاثوليك، الطائفة الآشورية الكلدانية، طائفة الكلدان الكاثوليك، والبروتستانت، والطائفة اللاتينية، ومحاكم روحية للطائفة الإسرائيلية[29]، والتي لن نتناولها في البحث بسبب هجرة أبناء الطائفة من سوريا. ويضاف إلى ما عددناه من طوائف، بحسب المادة 33 من قانون السلطة القضائية لعام 1961، الطوائف الإسلامية التي تخضع جميعها للمحكمة الشرعية، ويخضع أتباع طائفة الموحدين الدروز للمحكمة المذهبية[30]. تخضع الطوائف المسلمة لأحكام قانون الأحوال الشخصية رقم 59 لعام 1953، وتخضع طائفة الموحدين الدروز للقانون نفسه مع الأخذ بما جاء في المادة 307 منه، أما الطوائف المسيحية فهي تخضع لخمسة قوانين مختلفة بحسب تبعية كل منها إلى الكنيسة الشرقية أو الغربية أو لأصل قومي مختلف، وسنشير إلى هذه القوانين خلال استعراضنا للنقاط البحث.

سينحصر بحثنا في بعض النصوص المتعلقة بعقد الزواج، وهي على التحديد النصوص التي عالجت مسألة سن الزواج، الولاية، واختلاف الدين. وذلك بحكم أن هذه المسائل مرتبطة بمفهوم الأهلية والشخصية القانونية، وهي التي تحدد الموقف القانوني للفرد أمام القانون ومدى مقدرته على اكتساب الحقوق والالتزام بالواجبات ومدى شرعية تصرفاته من وجهة نظر القانون.

 

سن الزواج

– ينص قانون الأحوال الشخصية في الفقرة الأولى من المادة 15 على أنه يشترط في أهلية الزواج العقل والبلوغ، في حين نصت المادة 16 على: “تكتمل أهلية الزواج في الفتى والفتاة بتمام الثامنة عشر من العمر[31]، وتجيز المادة 18 أحوال شخصية للمراهق أو المراهقة بعد إكمال الخامسة عشر الطلب من القاضي الإذن بالزواج[32]. وهذا ما أخذت به محكمة النقض السورية لدى تفسيرها النص القانوني في عدة قرارات وفي قضايا مختلفة، إذ تقول في قرارها 544 / 1976 – أساس 557: “يشترط أخذ موافقة والد الزوجة على تثبيت الزواج إذا كانت لم تتجاوز السابعة عشر من عمرها عملًا بالفقرة الثانية من المادة 18 أحوال التي تجعل موافقته شرطًا في صحة الزواج”[33]. كذلك في القرار 719 / 1978 – أساس 706: “غن المادة 494 من كتاب الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية لقدري باشا المعمول به بدلالة المادة (305) أحوال شخصية قد جعلت سن المراهقة لدى الفتاة يبدأ في التاسعة من عمرها، فإذا كان البلوغ الشرعي لديها يمكن أن يكون منذ إكمالها التاسعة من العمر، فإنه لا مانع من أن تلد وهي في الثانية عشرة من عمرها. إن المادة الخامسة عشر اشترطت في أهلية الزواج العقل والبلوغ”[34]. وأيضًا القرار 298 / 1978 – أساس 356: “إن حضور الزوجين أمام المحكمة وتصادقهما على قيام الزوجية في وقت تكون فيه قد أكملت الثالثة عشر من عمرها يجعل العقد صحيحًا”[35].

يحدِّد القانون السوري السن الأدنى لأهلية عقد الزواج باكتمال الخامسة عشر من العمر، وترك أمر تقدير أهلية الزواج في هذه الحالة للقاضي. إذًا، فقانون الأحوال الشخصية، ولإتمام شروط عقد الزواج، لا يعتد بغياب الأهلية القانونية، المنصوص عنها في المادة 46 من القانون المدني بإتمام الثامنة عشر[36]، وهو لا يرى في غياب الأهلية سببًا لامتناع القضاء عن توثيق عقد الزواج أو إبطاله، وهو صراحة يجيز زواج الأطفال.

– في ما يتعلق بأتباع الطائفة الدرزية، أعطت الفقرة أ من المادة 307 الصلاحية المطلقة للقاضي المذهبي بالتأكد من صحة شروط العقد ومن بينها السن والأهلية[37]، بالتالي فإن تحديد سن الزواج أمام المحكمة المذهبية يخضع لما هو معمول به أمام المحاكم الشرعية. ونجد أنه من المفيد الإشارة إلى ما نصت عليه المادة الأولى من قانون الأحوال الشخصية للطائفة الدرزية في لبنان، من تحديد لسن الخاطب بثمانية عشر عامًا وسن المخطوبة بسبعة عشر عامًا، وهو يجيز زواج الصغير الذي تجاوز السادسة عشر، والصغيرة التي تجاوزت الخامسة عشر بإذن شيخ العقل أو القاضي المذهبي في المواد 2 و3. ووفقًا للمادة 5 فإنه لا يجوز زواج الصغير الذي لم يتجاوز السادسة عشر، وكذلك الصغيرة التي لم تتجاوز الخامسة عشر[38].

– المادة 800 من قانون الأحوال الشخصية للطوائف الكاثوليكية تحدد السن الأدنى للزوج بستة عشر عامًا، وللزوجة بأربعة عشر عامًا[39].

– الفقرة أ من المادة 13 من قانون الأحوال الشخصية لطائفة الروم الأرثوذكس تحدد سن زواج بالثامنة عشر للزوجين، وتسمح بالزواج للرجل الذي لا يقل سنه عن السابعة عشر، وللمرأة التي لا يقل عمرها عن الخامسة عشر، بشروط موافقة الولي والمحكمة الروحية بحسب الفقرة ب[40].

– المادة 4 من قانون الأحوال الشخصية للسريان الأرثوذكس [41] تنص على أن: “يشترط في الخطبة وعقد الزواج ان لا تقل فيهما سن الشاب عن الثامنة عشرة وسن الفتاة عن السادسة عشرة مع مراعاة القوانين المحلية”.

– الفقرة أ من المادة 3 من قانون الأحوال الشخصية للطائفة الأرمنية الأرثوذكسية تنص على أن من بين شروط الخطبة أن يكون الخطيب قد أتم السابعة عشر من عمره إذا كان ذكرًا او الرابعة عشر إذا كانت أنثى[42].

– الفقرة ب من المادة 14 قانون الأحوال الشخصية للمحاكم المذهبية الأنجيلية في سورية ولبنان [43]تنص على ألّا يكون سن الخاطب أقل من سبعة عشر عامًا إذا كان ذكرا أو خمس عشرة سنة إذا كان أنثى.

– الفقرة 1 من المادة 57 من نظام سر الزواج للكنيسة الشرقية: “لا يصح زواج الرجل قبل تمام السنة السادسة عشرة من عمره ولا زواج المرأة قبل تمام الرابعة عشر من عمرها”[44].

كنتيجة، يتبين أن النص على تحديد سن أدنى للزواج يختلف من قانون إلى آخر، بينما تتفق جميعها في إجازة الزواج قبل إتمام طرفيه سن الثامنة عشر خلافًا للقانون المدني وقانون حماية الطفل.

 

الولاية في عقد الزواج

في حين تعترف مختلف قوانين الأحوال الشخصية السورية للرجل بالأهلية القانونية الواجبة للتمتع بحق الزواج بمجرد نيله الأهلية المنصوص عنها في القانون المدني، وهي اتمامه ثمانية عشر عامًا، نجد أن بعضًا من هذه القوانين تتضمن قواعدًا تنتهك حق المرأة بالمساواة مع الرجل في هذه المسألة.

– منح قانون الأحوال الشخصية السوري الحق للولي بطلب فسخ عقد زواج المرأة في حالتين:

أولًا– في المادة 20 أحوال شخصية “إذا أتمت المرأة الثامنة عشرة من العمر، وأرادت الزواج، يطلب القاضي من وليها بيان رأيه خلال مدة لا تزيد على خمسة عشر يومًا، فإذا لم يعترض أو كان اعتراضه غير جدير بالاعتبار، يأذن القاضي بزواجها بشرط الكفاءة ومهر المثل”[45].

ثانيًا– في المادة 27 يحق للولي طلب فسخ عقد زواج المرأة إذا لم يكن الزوج كفؤًا لها. وفقًا لشرط كفاءة الرجل للمرأة المنصوص عنه في المادة [46]26.

وفقًا لما سلف، فالتشريع السوري لا يعترف بالشخصية القانونية المستقلة للمرأة، إسوة بالرجل في قضية الحق بالزواج، وهو ينطلق من قاعدة تتعارض مع مبادئ المساواة وعدم التمييز وذلك أولًا باعتبار المرأة شخصًا ناقص الأهلية، ما دام تصرفها القانوني بإبرام عقد الزواج لم يقترن بشرط موافقة الولي، ثانيًا بالنص على مسألة كفاءة الرجل للمرأة.

– تترك المادة 307 قضية تحديد الأهلية ومسألة الولاية على المرأة للقاضي المذهبي، في حين تنتهي الولاية على المرأة بإتمامها سن الحادية والعشرين بحسب نص المادة 6 من قانون الأحوال الشخصية للطائفة الدرزية في لبنان.

– تنتهي الولاية على المرأة لدى جميع الطوائف المسيحية بإتمامها الثامنة عشر، باستثناء ما ورد في المادتين 6 و21 من قانون الأرمن الأرثوذكس التي تشترط موافقة وليَّي الزوجين أو أحدٍ من ممثلي الكنيسة التي ينتمي إليها كل منهما لقبول توثيق طلب الخطبة أو الزواج. وكذلك المادة 5 من قانون السريان الأرثوذكس التي تشترط موافقة الولي على خطبة ابنته.

 

اختلاف الدين

تشترك مختلف قوانين الأحوال الشخصية في سوريا في قاعدة بطلان زواج المرأة من رجل لا ينتمي إلى دينها، ونحن نعتقد أن هذه القاعدة تشكل نقطة التقاطع الوحيدة في ما بين هذه التشريعات.

– الفقرة الثانية من المادة 48 من قانون الأحوال الشخصية تنص على أن: “زواج المسلمة بغير المسلم باطل”[47]. في حين لا يعتبر كذلك زواج المسلم بكتابية (مسيحية أو يهودية)، بل هو زواج صحيح منتج لجميع آثاره الشرعية دون الحاجة لإشهار إسلام الزوجة، وذلك بحسب المادة 120 وما بعد من كتاب الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية لقدري باشا[48]، بدلالة المادة 305 من قانون الأحوال الشخصية السوري والتي نصت على الرجوع إلى الراجح في المذهب الحنفي في كل ما لم يرد عليه النص. في المقابل تتمسك المحكمة الشرعية بطلب وثيقة إشهار إسلام المرأة غير المسيحية أو اليهودية من أجل القبول بتوثيق عقد زواجها من مسلم، مع التنويه إلى أن أبناء الطائفة الدرزية ملزمون بإبراز هذه الوثيقة في حال رغبتهم بالزواج من مسلم أو مسلمة.

– يتمتع القاضي المذهبي بصلاحية مطلقة في تحديد صحة شروط الزواج وتوفر الأهلية حسب القانون السوري. كما لا يشير قانون الطائفة الدرزية في لبنان إلى مسألة زواج الدرزي أو الدرزية من شخص لا ينتمي إلى الطائفة ذاتها، لكن المادة 16 منه تنص على أن: “لا يكون عقد الزواج صحيحًا إلا إذا أجراه شيخ العقل أو قاضي المذهب أو من أنابه عنه لإجرائه”، وفي الواقع لم يسجل أن عقدت المحاكم المذهبية في سوريا زواجًا مختلطًا طائفيًا، ما يشير إلى رفض توثيق هذا النوع من الزواج.

– المادة 784 من قانون الطوائف الكاثوليكية تشترط حيازة الخطيبين على وثائق المعمودية قبل استكمال إجراءات الاحتفال بالزواج، وكذلك كل من نص الفقرة ج من المادة 6 من قانون طائفة الروم الأرثوذكس، والفقرة ومن المادة 23 من قانون الطائفة الانجيلية، والمادة 11 من نظام سر الزواج للكنيسة الشرقية. المادة 23 من قانون طائفة السريان الأرثوذكس تشترط لقبول عقد الزواج أن ينتسب الزوجان إلى كنيسة السريانية الأرثوذكسية، وكذلك المادة 25 من قانون طائفة الأرمن الأرثوذكس. بالتالي، فإن جميع قوانين الأحوال الشخصية الخاصة بالطوائف المسيحية متفقة على بطلان الزواج الذي يكون فيه أحد طرفي العقد لا ينتمي إلى أي من تلك الطوائف.

 

الفصل الثاني، أثر النص

أولًا- النص الدستوري

– يتمسك البعض بنص الفقرة 2 من المادة 3 من الدستور للتأكيد على ضرورة التقيد بمبادئ الفقه الإسلامي وعدم تعارض أي من التشريعات الوطنية مع ما جاء في هذا الفقه. إن قراءة متأنية للنص ستكشف، أن النص، من الناحية اللغوية، قد اعتبر الفقه الإسلامي واحدًاد من بين العديد من مصادر التشريع الأخرى التي لم يحددها، وذلك بدلالة عدم إضافة ال التعريف إلى كلمة مصدر في جملة “الفقه الإسلامي مصدر رئيس للتشريع“، ما يعني أن الكلمة ليست معرفة أو محددة بصفة أو بمرجعية، بالتالي ليس هنالك من نص دستوري يحول بين المشرع وبين الرجوع إلى مصادر تشريع أخرى، بغض النظر عن توافق تلك المصادر أو عدم توافقها مع الفقه الإسلامي، ولا سيّما أن الصياغة الدستورية تخلو من الإشارة إلى أي طابع ديني للدولة[49]. أما من الناحية العملية والتشريعية، فإن تفسير النص، باختزال مصادر التشريع وحصرها بالفقه الإسلامي، لا ينسجم مع السياسات التشريعية المتبعة في سوريا منذ إعلان الدولة عام 1920، فمجموعة القوانين السورية، ومنذ تأسيس أول سلطة تشريعية في البلاد، ظلت دائمًا تضم قوانين تتعارض كليًا مع المبادئ الإسلامية بشكل خاص، والدينية بشكل عام، كالنصوص التي تنظم الأعمال المصرفية والتجارية والمدنية وما تتضمنه من قواعد حول الفائدة على القرض أو مبلغ التعويض، وهي، بدون أدنى شك، قضية محرمة في الإسلام بشكل قطعي، وأيضًا، سنجد كذلك عقود التأمين التي ترفضها الشريعة الإسلامية رفضًا قاطعًا وتحرمها بسبب كونها عقودًا احتمالية مضافة إلى المستقبل. ولا يتوقف عدم تقيد المشرع بالفقه الإسلامي كمصدر للتشريع على سن قوانين مخالفة للفقه في مجال العلاقات التجارية والتصرفات المدنية، وإنما أيضًا في الإجازة الضمنية للكثير من التصرفات الفردية التي حرمتها الأديان، مثلًا لا تعتبر إقامة علاقة جنسية رضائية بين راشدين، لا يرتبط أي منهما بعقد زواج، جرمًا يعاقب عليه القانون، ما دامت تلك العلاقة لا تؤلف إحدى جرائم الدعارة أو جرائم التعرض للأخلاق والآداب العامة. أما من الناحية الفقهية، فيرى الكثير من فقهاء الدستور أن الإشارة إلى الفقه الإسلامي كمصدر رئيس للتشريع ليس لها أكثر من أثر رمزي لا عملي[50]، وأن الغاية من النص عليها يهدف، فقط، إلى إظهار الهوية الثقافية للدولة والمجتمع[51].

ولما كان من غير الجائز بناء النص الدستوري على مبادئ استنسابية، بحيث يعالج بعض المسائل من منظور ديني، بينما يتخلى عن هذا المنظور عندما يتعارض الأخذ به مع مصلحة اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية ما، لما قد ينتج عن تلك الاستنسابية من إخلال بمبادئ العدالة وسيادة القانون. لذلك فإنه من غير الممكن الاستنتاج بذهاب قصد واضع النص إلى تقييد التشريع بما جاء به الفقه الإسلامي، فالدستور قد أخذ بالفعل بالعديد من المصادر الوضعية التي لا تتفق مع الأديان، واستقى الكثير من الأفكار التشريعية من الفكر القانوني العالمي، ولا سيّما الفرنسي.

– تتناول الفقرة 4 من المادة 3 قضية الأحوال الشخصية وفقًا للنص التالي: “الأحوال الشخصية للطوائف الدينية مصونة ومرعية“، وبعد أن وضحنا سابقًا ماهية مفهوم الأحوال الشخصية، وعدّدنا الطوائف المقصودة، أصبح بإمكاننا البحث في دلالات النص وتفسيره. بداية لا بدّ من إعادة التنويه إلى أن هذا النص غاب تمامًا عن دستور 1973، وأن غيابه قرابة النصف قرن من الزمن لم يؤثر على حقوق أي من الطوائف في سوريا. يعود واضع دستور 2012 إلى استخدام لغة مرنة في هذه الفقرة، بصيغة مشابهة لتلك المستخدمة في الفقرة الثانية، والتي تنضوي على عدم التحديد أو الحصر، فهو لا يقول إن الأحوال الشخصية للطوائف هي وحدها المصونة والمرعية دونًا عن غيرها، كما أنه لا يستخدم تعابير تفيد الإلزام أو التقيد أو الحظر. وإذا ما عدنا إلى المعنى اللغوي سنجد أن تفسير كلمة مصونة يشير إلى الحفظ، والائتمان على الشيء، وجعله في منأى من كل اعتداء، أما كلمة مرعية فتشير إلى العناية والاهتمام. إذًا، ووفقًا لهذا النص، فالدولة تصون وترعى حق كل مواطن بالخضوع لأنظمة الأحوال الشخصية المنصوص عنها في القوانين الخاصة بالطائفة التي يتبعها، دون أن يعني ذلك أنها وحدها الواجبة الاتباع.

– على الرغم من عدم توفر المراجع اللازمة من أجل التعرف على المقاصد التي يرمي إليها النص الدستوري في سوريا، لكن ما لا جدل فيه هو أن النص على خصوصية قوانين الأحوال الشخصية بحسب كل طائفة، لا يعبر فقط عن احترام حرية الأديان إعمالًا بالنص الدستوري، إنما هو في جوهره أيضًا تعبير عن أحد أشكال الحق بممارسة حرية الاعتقاد المنصوص عنها في المادة 33. واللافت في هذه النقطة أن الدستور بعد أن استخدم كلمة “مصونة” في المادة 3 للتعبير عن مدى أهمية الأحوال الشخصية، عاد واستخدمها للتعبير عن مدى أهمية حرية الاعتقاد، وبهذه الصياغة المشابهة فإنه لا يميز بين أهمية أي منهما. وهنا لا بدّ من التنويه إلى أن هذا النص مكرّر حرفيًا عن نص المادة 35 من دستور 1973 والذي يقول في فقرته الأولى: “حرية الاعتقاد مصونة وتحترم الدولة جميع الأديان”، بالتالي فإن الصياغة المستخدمة في النص تؤكد ذهاب قصد الصائغ إلى المساواة بين حرية الاعتقاد وبين احترام جميع الأديان، بمعنى أن الدستور يعترف بالاعتقاد اللاديني إلى جانب الاعتقاد الديني، وإلا فما هي الغاية من إدراج حرية الاعتقاد في نص واحد مع قضية احترام الأديان. وهو ينص على هذه المساواة دون أن يكون هناك أي أفضلية بسبب طبيعة الاعتقاد الديني أو اللاديني، أو تمييز بسبب اعتقاد الأكثرية الدينية واعتقاد أي من الأقليات الدينية وغير الدينية، إلا ما نص عليه صراحة حول دين رئيس الجمهورية.

 

ثانيًا- النص الدولي

– تقول الحكومة السورية في تقريرها الدوري إلى اللجنة المعنية بحقوق الإنسان: “صادقت سورية على العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية في العام 1969 وأصبح منذ ذلك الوقت جزءًا من تشريعها الوطني. وقد راعى دستور الجمهورية العربية عند صياغته في العام 1973 مواد هذا العهد، وغيره من الاتفاقيات والمعاهدات التي كانت قد انضمت إليها سورية. ومواد هذا العهد لا تتعارض مع الدستور، والجدير بالذكر أنه في حال تعارض أي قانون محلي مع أحكام معاهدة دولية تكون سورية طرفًا فيها فإن الغلبة تكون للمعاهدة الدولية.”، ويتابع التقرير بتأكيد شرعية ما ورد سابقًا بالإشارة إلى اجتهادات محكمة النقض السورية، ونصوص القانون الوطني التي تؤكد على أن ليس للقانون الداخلي أن يضع قواعد تتعارض مع الاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها سورية[52].

– في تقريرها الدوري إلى اللجنة المعنية بمتابعة تنفيذ اتفاقية حقوق المرأة “سيداو”، تُعيد الحكومة السورية التأكيد على النص السابق، حول التزامها بالمعاهدات الدولية التي صادقت عليها[53].

– في العام 2019 أصدر مجلس الوزراء في سوريا قرارًا تضمن الدليل الاسترشادي لصياغة التشريعات للعمل به في الجهات العامة كافة، وقد جاء فيه: “…. وتتلخص الضوابط الخارجية بضرورة تقيد الصائغ عند إعداد الصك التشريعي بمبدأ تدرج القواعد القانونية والنصوص الدستورية ذات الصلة بالموضوع المراد تنظيمه، وبالاتفاقيات والالتزامات الدولية، ومرتكزات السياسة العامة للدولة…. تعد الاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي تصادق عليها الجمهورية العربية السورية أحد المصادر المكتوبة للتشريع الداخلي التي يجب على الصائغ مراعاتها عند إعداد الصك التشريعي…. وعليه يجب على الصائغ عند إعداد الصك التشريعي أن يتقيد بما تضمنته الاتفاقيات الدولية التي ترتب التزامات على سورية”[54].

إذًا ومع الأخذ في الحسبان:

أولًا، ما نصت عليه الفقرة 2 من المادة 28 من الاتفاقية نفسها: “لا يجوز إبداء أي تحفظ يكون منافيًا لموضوع هذه الاتفاقية وغرضها”،

ثانيًا، إلغاء سوريا لتحفظها على المادة 2 من اتفاقية سيداو بموجب المرسوم 230 لعام 2017، وعدم تحفظها على الفقرتين أ، ب من المادة 16،

ثالثًا، كل ما أشرنا إليه من حقوق منصوص عنها في التزامات الدولية التي صادقت عليها سوريا،

رابعًا، موقع الالتزامات الدولية في الهرم التشريعي السوري، بكونها صاحبة الأفضلية بالتطبيق في حال التعارض مع القانون المحلي،

فإن التشريع السوري، من حيث المبدأ، يساوي بين جميع المواطنين السوريين، وغير السوريين من المقيمين فوق الإقليم السوري، بالحق بالزواج دون أي تمييز بسبب الدين أو الجنس.

 

ثالثًا– التشريع الوطني

الأهلية:

لا ينحصر تناقض النص القانوني في تحديد سن الأهلية الواجبة لإبرام عقد الزواج عند حد التعارض بين قانون الأحوال الشخصية والقانون المدني الذي اشترط إتمام الفرد لسن الثامنة عشر من أجل تمتعه بالأهلية التامة، بل هو يتجاوز ذلك إلى نصوص أخرى. قانون حقوق الطفل الصادر تحت الرقم 21 لعام 2021 في سوريا، يعرف الطفل في مادته الأولى بأنه كل من لم يتم الثامنة عشر من عمره، وهذا أيضًا ما نصت عليه المادة الأولى من الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل لعام 1989 والتي أقرها المشرع السوري واعطاها صفة القانون الوطني بموجب القانون رقم 8 لعام 1991.

يميز الفقه والقانون بين نوعين من الأهلية، أولًا أهلية الوجوب، وهي التي يستحقها الفرد بمجرد ولادته حيًا، والتي يكتسب بموجبها الحقوق كتلك الناتجة عن الإرث والهبة والنفقة، وهي تتطور مع بلوغه سن التمييز، ومن ثم تتوسع عند بلوغ الفرد سن المراهقة، أو اعتباره حدثًا بنظر القانون، لتشمل المسؤولية المحدودة عن تصرفاته الضارة. أما النوع الثاني فهو أهلية الأداء، وهي التي يحوزها الفرد المكتملة قوه العقلية والنفسية بإتمامه الثامنة عشر من العمر. ويشترط القانون توافر هذه الأهلية في الفرد من أجل تحمله المسؤولية الكاملة عن تصرفاته الضارة أو الممنوعة قانونًا، المقصودة وغير المقصودة، وهي أيضًا الأهلية التي يشترط توافرها في الفرد من أجل الاعتراف بتصرفاته الدائرة بين النفع والضرر وتحمله كامل المسؤولية عنها كإبرام عقود البيع والشراء والإيجار والوكالة.

لقد اتفق الفقه الإسلامي على أن الأهلية الواجبة لصحة عقد الزواج هي أهلية الأداء، وهذا ما أخذ به المشرع السوري، ولكنه اعتبر أن أهلية الأداء اللازمة لعقد الزواج هي ذات طبيعة خاصة، لا يُشترط معها اكتمال السن القانوني، فأجاز للقاضي، ضمن شروط معينة، الإذن للقاصر ممن أتم الخامسة العشر بالزواج.

وما يجعلنا في اختلاف جوهري مع هذا المذهب هو أن مفهوم الحق بالزواج في العصر الحالي يختلف كليًا عما كان عليه في العصر الذي جرى فيه الأخذ بهذا المذهب. فاليوم، يمكننا عدّ عقد الزواج واحدًا من أخطر العقود التي قد يلتزم بها الفرد، إن لم يكن أخطرها، لما ينضوي عليه من مسؤوليات وواجبات قانونية، لا تنحصر بقضية النفقة وحسن المعاشرة بين الزوجين، بل تتجاوز ذلك إلى قضية المسؤولية عن الأطفال الذين قد يولدون نتيجة لهذا العقد. والواقع أن القانون السوري لا يعطي أهمية للمخاطر الاجتماعية التي قد تنتج عقد الزواج، بل إنه أجاز زواج المجنون ضمن شروط معينة، دون الاكتراث لقضية المسؤولية عن أولاد هذا المجنون، وهذا ما أخذت به فعلًا محكمة النقض في أحد اجتهاداتها القديمة بالقرار 993 / 1981 – أساس 927: “زواج المرأة ولو كانت فاقدة الأهلية صحيح متى أجرى العقد والدها”[55]. لا يعالج المشرع السوري في قضية أهلية الزواج إلا الجانب الجسدي، بمعنى أنه يغفل إلى حد بعيد الجانب الإنساني في العلاقة الزوجية، إذ تنص المادة 18 أحوال شخصية على:

1) إذا ادعى المراهق أو المراهقة البلوغ بعد إكمال الخامسة عشرة وطلبا الزواج يأذن به القاضي إذا تبين له صدق دعواهما واحتمال جسميهما، ومعرفتهما بالحقوق الزوجية.

2) إذا كان الولي هو الأب أو الجد اشترطت موافقته.

إن الشروط التي حددتها هذه المادة لمنح الإذن للمراهق لا تعني بأي حال من الأحوال توفر الأهلية اللازمة لعقد الزواج، ولا يمكن حصر قضية أهلية الزواج بمسألة البلوغ وتحمل الجسد للعلاقة الجنسية ونتائجها، بل لا بدّ من الأخذ في الحسبان أن معرفة الحق لا تعني بالضرورة المقدرة على ممارسة هذا الحق أو تحمل المسؤولية تجاهه.

 

المساواة وعدم التمييز:

تطرح مسألة الولاية على المرأة في عقد الزواج عدة تناقضات، فمنح الولي حق طلب فسخ عقد الزواج خلال خمسة عشر يومًا في حال عدم حضوره وموافقته على العقد، وكذلك منحه هذا الحق، في حال كان الزوج غير كفؤ للزوجة، دون تقييد ذلك بمدة محددة. لا ينص القانون على تعريف للكفاءة، وقد ذهبت محكمة النقض في قرارها 325 / 1956 – أساس 326 أن “العبرة في الكفاءة للعرف وتقديرها يعود لقاضي الموضوع”[56]، كما أن الفقه الإسلامي يتفق على ضرورة توفر الكفاءة في ست نواحي وهي: التدين والعفة، الإسلام والمقصود به إسلام الآباء والأجداد، النسب، المال، الحرفة، وأخيرًا ما استقر عليه العرف[57]، دون الاتفاق على معايير محددة في هذه القضايا.

وما لا شك فيه أن النص على مسألة كفاءة الرجل للمرأة يمثل خرقًا لمبادئ المساواة وعدم التمييز المنصوص عنه في المادتين 19 و33 من الدستور، وهو يتعارض كليًا مع الفقرة 1/أ/ب من المادة 16 من اتفاقية سيداو، والتي أوردناها تفصيلًا في الفصل الأول من القسم الأول، علمًا أن هذا النص لم تشمله تحفظات الحكومة السورية، وأن هذه الاتفاقية قد حازت درجة التشريع الوطني الواجب الاحترام في سوريا بموجب مرسوم تصديقها رقم 330 لعام 2002.

 

حرية الاعتقاد وحق المواطنة:

تنص المادة 306 من قانون الأحوال الشخصية على أن: “يطبق هذا القانون على جميع السوريين سوى ما تستثنيه المادتين التاليتين”، وقد استثنت المادة307 أتباع الطائفة الدرزية وتضمنت نصوصًا خاصة بهم، في حين استثنت المادة 308 أتباع الطوائف المسيحية في ما يتعلق بقضية الزواج وغيرها من قضايا الأسرة، دون أن يشمل هذا الاستثناء قضايا النسب بوصفها من قضايا النظام العام وتخضع لاختصاص المحكمة الشرعية أيًا كانت مذاهب أطرافها. لكن قضية الاختصاص لا تنحصر بقانون الأحوال الشخصية والمادة 306، بل هي من القضايا الرئيسة التي يتصدى لها قانون أصول المحاكمات المدنية. فتنص المادة 487 من هذا القانون الأخير[58] على أن: “تختص المحكمة الشرعية بالحكم بالدرجة الأخيرة في قضايا الأحوال الشخصية للمسلمين وتشمل: أ- الزواج. ب- انحلال الزواج. ج- المهر والجهاز. د- الحضانة والرضاع. هـ- النفقة بين الزوجين والأولاد. و- الوقف الخيري من حيث حكمه ولزومه وصحة شروطه”.

وقد يبدو أول وهلة أن ليس هناك من إشكالية بين النصين، حيث فسر البعض هذا التعارض بأن قانون الأحوال الشخصية يطبق أمام المحكمة الشرعية على جميع السوريين من المسلمين، في حين يخضع البقية من السوريين من غير المسلمين لمحاكمهم وقوانينهم الخاصة. قد يكون ممكنًا الأخذ بهذا التفسير لو أن جميع السوريين ينتمون للطوائف التي اعترف بها القرار 60 ل.ر، لكن واقع الحال ليس كذلك، فهناك مواطنون سوريون لا يتبعون أيًّا من الطوائف المشار إليها. أتباع الطائفة اليزيدية على سبيل المثال لا الحصر، لا يخضعون في قضايا الزواج للقضاء الشرعي، وهذا ما استقر عليه العمل في المحاكم الشرعية، التي ظلت ترفض توثيق عقود زواج أبناء هذه الطائفة[59]، وهو أيضًا ما أكدته الغرفة الشرعية الأولى في محكمة النقض السورية في الدعوى أساس 831 قرار 914 العام 2015: “المادة 536 من قانون أصول المحاكمات المدنية رقم 84 لعام 1953 وتعديلاته قد حددت وعلى سبيل الحصر اختصاص المحكمة الشرعية في قضايا الأحوال الشخصية للمسلمين فقط ومنها الزواج وانحلاله وهذا يعني أنه لا اختصاص لها في قضايا غير المسلمين”[60].

استثنى القرار 53 ل.ر لعام 1939 المسلمين من الخضوع لأحكام القرار 60 ل.ر لعام 1936 المتضمن قانون تنظيم الطوائف، إلا أن هذا الاستثناء لم يؤثر على استمرار العمل بموجبه بالنسبة إلى غير المسلمين، فظل ساري المفعول ومعترفًا به في سوريا كأحد التشريعات الوطنية، ولم يصدر أي قانون بإلغائه، وذلك على الرغم من عدم العمل بالكثير من مواده، وعدم خضوع المسلمين لأحكامه. ما يعنينا فعلًا من هذا القرار هو الفقرة الثانية من المادة 10:

يخضع السوريون واللبنانيون المنتمون إلى طائفة تابعة للحق العادي وكذلك السوريون واللبنانيون الذين لا ينتمون إلى طائفة ما للقانون المدني في الأمور المتعلقة بالأحوال الشخصية.”

وكذلك الفقرة الأولى من المادة 17 من القرار ذاته:

إن الأحوال الشخصية العائدة للسوريين أو اللبنانيين المنتمين إلى إحدى الطوائف المذكورة في المادة الرابعة عشرة وما يليها أو غير المنتمين إلى إحدى الطوائف الدينية تخضع للقانون المدني“.

ووفقًا لهذه النصوص، يختص القضاء المدني، وحده دون غيره، بالنظر في قضايا الأحوال الشخصية بالنسبة إلى أتباع الطائفة اليزيدية، وغيرهم من الذين لا يتبعون أي من الطوائف التي اكتسبت الاعتراف القانوني، وهذا ما ظل ساريًا إلى ما قبل التعميم رقم 7 لعام 2021[61]، المخالف للدستور والقانون، والذي جعل من المحاكم الشرعية، مختصة بالنظر في قضايا الأحوال الشخصية الخاصة بأتباع هذه الطوائف.

إن الحق المشار إليه في القرار 60 ل.ر، باختيار الخضوع للقضاء المدني في قضايا الأحوال الشخصية، لا ينحصر بأتباع الطوائف غير المعترف بها، بل يشمل أيضًا الأفراد الذين لا ينتمون لطائفة ما، وهنا، بالتحديد في ما يتعلق بالفئة الأخيرة من المواطنين غير المنتمين لطائفة ما، نجد أنفسنا ملزمين بالبحث في أنفسناأماهية المعيار القانوني في تحديد الانتماء من عدمه؟

لقد بينّا سابقًا، أن الدستور السوري ساوى بين حرية الاعتقاد واحترام الأديان، وأنه لا يميز بين الاعتقاد الديني واللاديني، وانطلاقًا من هذا المبدأ، لا يمكن للدولة أو للمجتمع، وفق النص الدستوري، التدخل في معتقدات الفرد أو إلزامه باعتناق معتقد ما، فاعتبار الشخص تابعًا لدين أو طائفة، أو أنه مؤمنًا أو غير مؤمن بمعتقد ما، لا يقرره القانون، إنما يختاره الفرد بملء إرادته الحرة، وبموجب حقه المصان دستوريًا، بالتالي تصبح قضية الانتماء من بين القضايا التي تحددها إرادة الفرد ذاته لا النص، وأن الإشارة إلى مذهبه أو دينه في السجل المدني لا تعبر بالضرورة عن رغبة الفرد في الخضوع لقانون الأحوال الشخصية والمحاكم الشرعية أو غيرها من الروحية والمذهبية، كما أن ذكر الدين أو المذهب في القيد المدني لا يعني بالضرورة أن صاحب العلاقة يؤمن أو أنه يتبع الدين المذكور في قيده المدني. لقد حددت المادة 1 من قانون الأحوال المدنية البيانات الأساسية في القيد المدني، وهي جاءت على سبيل الحصر: الرقم الوطني، الاسم، النسبة، اسم الأب، اسم الأم، محل وتاريخ الولادة[62]، بما يعني أن المشرع السوري لا يعتبر الدين أحد البيانات الأساسية الخاصة بالفرد. كما أن المادة 22 من القانون نفسه نصت في فقرتها الثانية على أن “لا يجوز تدوين الديانة والمذهب في البيان الممنوح إلا إذا كان مخصصًا للأحوال الشخصية، أو بناء على طلب صاحب العلاقة”[63] بمعنى أن الأصل هو في حق المواطن بطلب عدم الإشارة لمعلومات الدين والطائفة المدونة في سجله المدني، مع التنويه إلى إن استثناء الوثائق المخصصة للأحوال الشخصية من النص لا يحول دون حق صاحب القيد بطلب وثائق خالية من الإشارة للدين حتى ولو كانت غايته من هذا الطلب استعمال تلك الوثائق في مسائل الأحوال الشخصية، وذلك بدلالة الفقرة الأولى من المادة نفسها التي لا تُلزمه ببيان أسباب طلبه.

تشير بيانات السجل المدني السوري إلى أن الكثير من إشارات الزواج المدونة قد جرى تنفيذها بموجب وثائق زواج مدني عُقدت في دول أجنبية، فقد ظلت المديرية العامة للأحوال المدنية تصادق على هذه العقود إلا ما كان منها مخالفًا لنص قانوني سوري، كزواج المسلمة بغير المسلم أو زواج المثليين، وظل العمل ساريًا وفق هذا المنهج لما يقارب أو يزيد على أربعة عقود، إذ استندت المديرية العامة في توجهها هذا إلى نص المادة 19 من قانون الأحوال المدنية الملغى[64]، ولكن عدلت هذه المديرية عن هذا التوجه منذ عقدين تقريبًا، دون الاستناد إلى أي نص أو تشريع يبرر هذا العدول، وراحت تعلق تنفيذ عقد الزواج المدني الحاصل في دول أجنبية إلى حين إثباته بقرار قضائي يصدر عن المحاكم الشرعية أو الطائفية.

ومن المفارقات التي سيظل من الصعب حصرها في التشريع السوري، أن المشرع قد أعاد النص حرفيًا على مضمون المادة 19 الملغاة في المادة 17 من قانون الأحوال المدنية الجديد، مع العلم أن هذا النص مستوحى بالأصل عن نص المادة 25 من القرار 60 لعام 1939.

 

الزواج المدني

لقد دأب البعض على التأكيد على أن الزواج المدني مخالف للقانون السوري وهو باطل حكمًا، دون الاستناد في هذا الادعاء إلى نص قانوني أو اجتهاد قضائي حاسم في هذه المسألة. بينما في الواقع يجيز القانون السوري عقد الزواج المدني أمام القضاء المدني السوري بالنسبة إلى الأجانب الذين يخضعون في بلادهم في قضايا الأحوال الشخصية للقانون المدني، إن هذه الإجازة المنصوص عنها في الفقرة ب من المادة 11 من قانون أصول المحاكمات تنفي حكمًا مخالفة الزواج المدني للنظام العام في سوريا. فنعت تصرف ما بأنه مخالف للنظام العام يعني عدم إجازته لأي سبب وتحت أي ظرف. يضاف إلى هذا الادعاء غير الدقيق ببطلان الزواج المدني، أن القضاء المدني السوري، وعلى الرغم من أنه يقبل النظر فعلًا في عقود الزواج المدني المبرمة خارج البلاد بين سوريين وبعقود زواج أتباع الطائفة اليزيدية والأجانب الخاضعين في بلادهم للقانون المدني، إلا أنه لم ينظر فعلًا في طلب توثيق عقد زواج مدني في سوريا مقدم من مواطنين سوريين، وذلك بسبب عدم تلقيه مثل هذا الطلب، أو بسبب امتناع الدوائر القضائية عن تسجيله. لكن وبغض النظر عن السبب في عدم نظر القضاء المدني السوري في طلب عقد الزواج، لا بدّ من الإشارة إلى أن القاضي ملزم بالنظر والرد على كل ما يُقدم إليه من طلبات أو دفوع، وإلا كان امتناعه أو رفضه، لأي سبب كان، كالتذرع بعدم وضوح أو غموض أو انتفاء النص، يندرج تحت مفهوم الخطأ المهني الجسيم ويمثل إنكارًا للعدالة، أيًّا كانت هذه الطلبات، بما فيها طلب توثيق عقد الزواج المدني، وفقًا لأحكام المادة 466 وما بعد من قانون أصول المحاكمات.

إن إجازة عقد الزواج المدني بالنسبة إلى الأجانب المقيمين في سوريا، ومن ثم الذهاب إلى تفسير النص بعدم قانونية هذا الزواج بالنسبة إلى المواطن السوري، يطرح تساؤلات عديدة عن عدالة النص والمنطق أو المبدأ القانوني الذي يستند إليه هذا التفسير. في حين أن القانون السوري لا يشير إلى أي حظر للزواج المدني، ولا يتضمن أي نص يعتبره باطلًا أو مخالفًا للقانون.

مع الأخذ في الحسبان مفاعيل القاعدة الفقهية القائلة بأن “الأصل في الأمور الإباحة”، وبغض النظر عن كون نص القرار 60 ل.ر لعام 1939 ما زال ساري المفعول ولم ينل منه أي إلغاء، وأن الأصل في أن “لا اجتهاد مع النص”، ووفقًا لكل ما عرضناه وناقشناه في هذه الورقة من نصوص دستورية ودولية، يمكننا الادعاء بأن التشريع السوري يجيز لأي سوري أو مقيم في سوريا، بغض النظر عن جنسه أو مذهبه المدون في القيد المدني، اختيار القانون والقضاء المدني كمرجعية قانونية وقضائية من أجل إبرام عقد الزواج المدني.

 

الخاتمة

لقد حدّدنا في هذه الورقة النصوص الدولية، وكذلك الدستورية السورية، التي عالجت قضية الحق بالزواج، وحاولنا تفسيرها وبيان دلالتها، ثم بحثنا في النصوص القانونية الوطنية المتعلقة بالقضية ذاتها، وبينّا مدى توافقها مع الدستور ومع النص الدولي من جهة، ومع بعضها البعض من جهة، ثم تناولنا تأثير النصوص الوطنية وخرقها لمفهوم المواطنة ولمبادئ حقوق الإنسان ولا سيّما قضيتي المساواة وعدم التمييز، ونكون بذلك قد أجبنا عن الأسئلة الثلاثة الرئيسة التي طرحتها الدراسة في مقدمتها، بينما سنتناول السؤال الأخير حول الوسائل الممكنة والتي يمكن من خلالها مواجهة الإشكالية التي قدمتها الدراسة في ما يلي.

يرزح المجتمع السوري، كغيره من المجتمعات الشرقية، ومنذ عقود طويلة، تحت وطأة أشكال عديدة من الاستبداد الاجتماعي والثقافي والسياسي، بينما ظلت البيئة القانونية عاجزة عن مواجهة هذا الواقع وإيجاد الحلول الناجعة للنهوض بالإنسان في هذه البلاد. ونحن نعتقد أن من بين أهم الأسباب التي سببت كل ما أشرنا إليه من تناقضات في هذه الورقة، وغيرها من التناقضات التي لا يسعنا الإحاطة بها جميعًا، هو تعطل عمل المحكمة الدستورية في سوريا، وعدم النص على آليات أخرى تتيح، لغير رئيس الجمهورية أو خُمس أعضاء مجلس الشعب، إحالة القوانين والمراسيم والأنظمة إليها للنظر في دستوريتها.

اليوم، وبعد ما شهدته سوريا من صراعٍ دامٍ، تبدو الحاجة ملحة، أكثر من أي وقت مضى، إلى أن تؤكد الدولة السورية على احترامها لتعهداتها الدولية، والتزامها بالنصوص الدستورية النافذة، وإلى أن يتجاوز هذا التأكيد حدوده اللفظية والإعلامية، ليتحول إلى حقيقة واقعة، من خلال اتباع سياسات تشريعية تنسجم مع مبادئ ذ + حقوق الإنسان ومفاهيم الدولة الحديثة. إن كل ذلك لا يمكن الوصول إليه إلا من خلال مراجعة نقدية جريئة تتجاوز القيود الدينية والمخاوف الطائفية والاجتماعية والمطامع السياسية والاستبدادية التي كثيرًا ما عاناها الشعب السوري، ونحن عندما نشير إلى تحمل الدولة السورية لمسؤولياتها واحترامها لالتزاماتها، فالمقصود هو كل الشعب السوري إضافة إلى الجهاز الإداري الذي يدير الدولة، بغض النظر عن النظام السياسي الحاكم.

يمثل الحق بالزواج، والقوانين التي تنظم ممارسته، واحدة من أخطر القضايا التي يجب على المشرع مواجهتها، ونحن نعتقد، بالاستناد إلى ما كل ما عرضناه في هذه الورقة، أن النصوص القانونية الحالية عاجزة عن مواجهة هذه القضية، وقد حان الوقت لاقتراح نظام أحوال شخصية اختياري، يجيز صراحةً عقد الزواج المدني بغض النظر عن دين أو طائفة الزوجين، مع الاحتفاظ بالنظام الحالي، وترك قرار اختيار أي منهما من أجل إبرام عقد الزواج خاضعًا فحسب لإرادة طرفي العقد دون أي قيد. أخيرًا، فإننا نرى أن مواجهة التناقضات التي عرضناها تقتضي من المشرع السوري اتخاذ إجراءات جذرية في إصلاح النص القانوني الحالي، بما يضمن:

  • تحديد السن الأدنى لاكتمال الأهلية القانونية لإبرام عقد الزواج بثمانية عشر عامًا للجنسين، وإبطال أي نص أو استثناء يجيز إبرام عقد الزواج أو الاعتراف به قضائيًا، إذا ما كان أحد طرفي العقد لا يتمتع بأهلية الأداء المنصوص عنها في القانون المدني.
  • إلغاء جميع النصوص المتعلقة بالولاية على المرأة أو الرجل في عقد الزواج، وإلغاء كل نص يحد من حريتهما في ممارسة حقهما بالزواج، أينما ورد.
  • النص صراحة على حرية الفرد وحقه بالاختيار بين نظام الأحوال الشخصية الطائفي والنظام المدني، من أجل إبرام عقد الزواج، بما يشمل الاعتراف بالزواج المختلط دينيًا، دون أي تمييز بسبب الجنس أو الدين أو الطائفة أو الاعتقاد.
  • إلغاء تعدد الزوجات، وتفعيل نص المادة 469 من قانون العقوبات، وتشديد العقوبة الواردة فيها بشأن زواج القُصّر، وتعديل النص بما يشمل أي زواج يُعقد خارج القضاء.

 

 

المراجع

  • الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948.
  • العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لعام 1966.
  • الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة 1979.
  • الدستور السوري 2012.أعلى النموذج
  • أسفل النموذج

 

  • الدستور السوري 1920.
  • الدستور السوري 1930.
  • الدستور السوري 1950.
  • الدستور السوري 1973.
  • المذكرة الايضاحية – مرسوم تشريعي رقم (59) لعام 1953 – قانون الأحوال الشخصية.
  • القرار 60 ل.ر لعام 1939.
  • قانون السلطة القضائية رقم 98 لعام 1961.
  • قانون الأحوال الشخصية رقم 59 لعام 1953.
  • القانون المدني السوري رقم 84 لعام 1949.
  • قانون الأحوال الشخصية للطائفة الدرزية في لبنان لعام 1948.
  • قانون الأحوال الشخصية للطوائف الكاثوليكية رقم 31 لعام 2006.
  • قانون الأحوال الشخصية رقم 23 لعام 2004 للروم الأرثوذكس.
  • قانون الأحوال الشخصية للسريان الارثوذكس رقم 10 لعام 2004.
  • قانون الأحوال الشخصية للطائفة الأرمنية الأرثوذكسية في سوريا.
  • قانون الأحوال الشخصية للمحاكم المذهبية الانجيلية في سورية ولبنان.
  • قانون أصول المحاكمات المدنية رقم 1 لعام 2016.
  • قانون الأحوال المدنية رقم 13 لعام 2021.
  • قانون الأحوال مدنية رقم 376 لعام 1957.
  • نظام سر الزواج للكنيسة الشرقية.
  • قدري باشا، كتاب الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية على مذهب الإمام ابي حنيفة النعمان، 1889.
  • دليل تدريب المحامين السوريين، نقابة المحامين الدولية، 2018، ص 40.
  • زيدون الزعبي، الدين والدولة بين التيارات الليبرالية والمحافظة السورية: قراءة في ثلاثة دساتير سورية 1920-1950-1973، مركز عمران للدراسات الاستراتيجية 02/11/2020، ص 20.
  • أديب استانبولي، اجتهادات محكمة النقض، قانون الأحوال الشخصية ج1 وج2.
  • نوار بدير وعاصم خليل، الإشارة إلى الإسلام والشريعة في الوثائق الدستورية، 2019، ص17.
  • التقرير الدوري الثالث المقدم من الحكومة السورية إلى لجنة المعنية بحقوق الإنسان رقم CCPR/C/SYR/2004/3، البند 39، ص 14.
  • التقرير الدوري الثاني المقدم من الحكومة السورية إلى اللجنة المعنية بالقضاء على التمييز ضد المرأة رقم CEDAW/C/SYR/2 لعام 2012، الفقرة 26، ص 11.
  • قرار مجلس الوزراء رقم (41/م.و) لعام 2019.
  • حسن البغا ومصطفى البغا، قانون الأحوال الشخصية1، منشورات الجامعة الافتراضية السورية 2018، ص113.
  • مقال من الإرث إلى الزواج.. معاناة الإيزيديين من قانون الأحوال الشخصية في سوريا، موقع الحرة، تاريخ زيارة الموقع 18/11/2021.
  • نادي المحامي السوري، قضايا غير المسلمين، اجتهاد محكمة النقض، تاريخ زيارة الموقع 18/11/2021.
  • قاموس القانون الذي القاموس القانوني المجاني على الإنترنت الطبعة الثانية، The Law Dictionary.

 

 

[1] المذكرة الايضاحية – مرسوم تشريعي رقم (59) لعام 1953 – قانون الأحوال الشخصية.

[2] دليل تدريب المحامين السوريين، ص 40.

[3] الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948.

[4] العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لعام 1966.

[5] المرجع السابق.

[6] المرجع السابق.

[7] المرجع السابق.

[8] المرجع السابق.

[9] الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة 1979.

[10] المرجع السابق.

[11] المرجع السابق.

[12] الدستور السوري 2012.

[13] المرجع السابق

[14] المرجع السابق.

[15] المرجع السابق.

[16] لم تنشر أيًا من محاضر الاجتماعات التي توثق النقاشات والمداخلات القانونية والسياسية التي رافقت وضع هذا الدستور، الأمر الذي يشكك بوجود مثل هذه المحاضر، ولا سيّما إذا ما أخذنا في الحسبان الطابع الاستبدادي الذي ميز أسلوب تأليف اللجنة المكلفة بصياغة الدستور، وما رافق ذلك من تعتيم إعلامي على أعمالها، ومن انعدام للشفافية. ينسحب هذا الحال على جميع الدساتير السابقة حتى العام 1963.

 

[17] المرجع السابق.

[18] المرجع السابق.

[19] The Law Dictionary قاموس القانون الذي القاموس القانوني المجاني.أعلى النموذج

أسفل النموذج

 

[20] المذكرة التوضيحية لمشروع القانون العربي الموحد للأحوال الشخصية، المنشور في لمجلة العربية للفقه والقضاء، تصدرها الامانة العامة لمجلس وزراء العدل، العدد الثاني، السنة الثانية، تشرين اول، 1985، ص 45.

[21] كثيرًا ما يقع الخلط بين هذا المفهوم ومفهوم الأحوال المدنية الذي يبحث في البيانات الفردية الخاصة أي الاسم واللقب وتاريخ الولادة والحالة العائلية وتاريخ الوفاة وغيرها من المعلومات الشخصية، ولا سيّما أن تعبير الأحوال الشخصية يشير في دول عربية أخرى إلى ما هو معروف في سوريا بالأحوال المدنية، إضافة إلى أنه من الناحية اللغوية فإن التعبيرين يحتملان المعنى ذاته، لذلك كثيرًا ما رأينا أنه من الدقة أن يتخلى المشرع عن تسمية الأحوال الشخصية ليستبدلها بتسمية قانون الأسرة.

[22] الدستور السوري 1920.

[23] الدستور السوري 1930.

[24] الدستور السوري 1950.

[25] المرجع السابق.

[26] زيدون الزعبي، الدين والدولة بين التيارات الليبرالية والمحافظة السورية: قراءة في ثلاثة دساتير سورية 1920-1950-1973، مركز عمران للدراسات الاستراتيجية 02/11/2020، ص 20.

[27] نعتقد، خلافًا لما يذهب إليه بعض الدارسون، أن السبب وراء إعادة طرح هذه القضية في المبادئ الأساسية من الدستور يكمن في الحاجة إلى ضمان ولاء المؤسسات الدينية المختلفة في البلاد للسلطة الحاكمة، وبغية تكريس الواقع الطائفي في المجتمع السوري، وهذا ما شهدناه فعلًا خلال السنوات العشر الأخيرة، فعلى الرغم من الفظائع التي اارتكبت، لم تبدل تلك المؤسسات، من مختلف الطوائف، من موقفها الداعم للسلطة السياسية الحاكمة في البلاد.

 

[28] الدستور السوري 2012.

[29] القرار 60 ل.ر لعام 1939.

[30] قانون السلطة القضائية رقم 98 لعام 1961.

[31] قانون الأحوال الشخصية رقم 59 لعام 1953.

[32] المرجع السابق.

[33] قاعدة 84 – قانون الأحوال الشخصية ج1 وج2 – استانبولي.

[34] قاعدة 68 – قانون الأحوال الشخصية ج1 وج2 – استانبولي.

[35] قاعدة 66 – قانون الأحوال الشخصية ج1 وج2 – استانبولي.

[36] مادة 46 – القانون المدني السوري:

1- كل شخص بلغ سن الرشد متمتعًا بقواه العقلية، ولم يحجر عليه، يكون كامل الأهلية لمباشرة حقوقه المدنية.

2- وسن الرشد هي ثماني عشرة سنة ميلادية كاملة.

[37] قانون الأحوال الشخصية رقم 59 لعام 1953

[38] قانون الأحوال الشخصية للطائفة الدرزية في لبنان لعام 1948.

[39] قانون الأحوال الشخصية للطوائف الكاثوليكية رقم 31 لعام 2006.

[40] قانون الأحوال الشخصية رقم 23 لعام 2004 للروم الأرثوذكس.

[41] قانون الأحوال الشخصية للسريان الأرثوذكس رقم 10 لعام 2004.

[42] قانون الأحوال الشخصية للطائفة الارمنية الأرثوذكسية في سوريا.

[43] قانون الأحوال الشخصية للمحاكم المذهبية الانجيلية في سورية ولبنان.

[44] نظام سر الزواج للكنيسة الشرقية.

[45] قانون الأحوال الشخصية رقم 59 لعام 1953.

[46] المرجع السابق.

[47] المرجع السابق.

[48] قدري باشا، كتاب الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية على مذهب الإمام ابي حنيفة النعمان، 1889.

[49] نوار بدير وعاصم خليل، الإشارة إلى الإسلام والشريعة في الوثائق الدستورية، 2019، ص17.

[50] المرجع السابق، ص9.

[51] المرجع السابق، ص13.

[52] التقرير الدوري الثالث المقدم من الحكومة السورية إلى لجنة المعنية بحقوق الإنسان رقم CCPR/C/SYR/2004/3، البند 39، ص 14.

[53] التقرير الدوري الثاني المقدم من الحكومة السورية إلى اللجنة المعنية بالقضاء على التمييز ضد المرأة رقم CEDAW/C/SYR/2 لعام 2012، الفقرة 26، ص 11.

[54] قرار مجلس الوزراء رقم (41/م.و) لعام 2019.

[55] قاعدة 63 – قانون الأحوال الشخصية ج1 وج2 – استانبولي.

[56] قاعدة 95 – قانون الأحوال الشخصية ج1 وج2 – استانبولي.

[57] حسن البغا ومصطفى البغا، قانون الأحوال الشخصية1، منشورات الجامعة الافتراضية السورية 2018، ص113.

[58] قانون أصول المحاكمات المدنية رقم 1 لعام 2016.

[59] مقال من الإرث إلى الزواج.. معاناة الإيزيديين من قانون الأحوال الشخصية في سوريا، موقع الحرة، تاريخ زيارة الموقع 18/11/2021.

[60] نادي المحامي السوري، قضايا غير المسلمين، اجتهاد محكمة النقض، تاريخ زيارة الموقع 18/11/2021.

[61]  بتاريخ 14/02/2021 أصدر وزير العدل السوري التعميم رقم 7 الذي اعتبر أن المحاكم الشرعية هي الجهة المختصة بقضايا الأحوال الشخصية الخاصة بأتباع الطائفة اليزيدية استنادًا إلى نص المادة 306 من قانون الأحوال الشخصية. دستوريًا لا يحق لوزير العدل تجاوز اختصاصه الإداري، المحصور بالإشراف على خدمة المرافق القضائية، والمحدد بموجب نص المادة 1 من قانون السلطة القضائية، إذا إن تفسير النص القانوني من قبل وزير العدل يعد تدخل صريح غير محق بعمل القضاء، فتفسير القانون يمثل جوهر عمل القاضي، وتشرف محكمة النقض على ذلك بموجب نص المادة 251 أصول محاكمات مدنية، والمادة 46 وما بعد من قانون السلطة القضائية.

[62] قانون الأحوال المدنية رقم 13 لعام 2021.

[63] المرجع السابق.

[64] قانون الأحوال مدنية رقم 376 لعام 1957.

مهند البعلي

ناشط حقوقي سوري في مجال حقوق الإنسان والمنظمات المدنية غير الحكومية، محامٍ متخصِّص بقانون الأحوال المدنية وقضايا مكتومي القيد، وعديمي الجنسية، والزواج المختلط. لديه بحث في واقعة الولادة في القانون السوري لنيل لقب أستاذ في المحاماة ٢٠١٠، معاون مدير الأحوال المدنية في وزارة الداخلية ٢٠٠١ – ٢٠٠٨، عضو مؤسِّس في تجمع المحامين الديمقراطيين عام ٢٠١١، منسِّق مشروع الشبكة السورية لبناء السلام ٢٠١٢ – ٢٠١٣، مدير العمليات في منظمة ايتانا للتوثيق ٢٠١٤ – ٢٠١٥، عضو مجلس إدارة تجمع منظمات حقوق الإنسان في مدينة انجيه في فرنسا منذ العام ٢٠١٥، ناشط في منظمة فرنسا أرض اللجوء منذ العام ٢٠١٨.

مشاركة: