Search

الحصار الاقتصادي وتدمير الدولة

ثمّة مشكلة قد لا يكفي لفهمها استيعاب تطوّر تاريخ الخطاب السياسي في المنطقة العربية، بل قد يحتاج الشارح إلى مساعدة علم نفس الفرد والجموع. لنسمّ هذه المشكلة كالتالي: “عقدة الماركسيّين السابقين تجاه النظرية”. يبدو لي أحيانًا أنّ تطوّر هؤلاء يشبه “تطوّر” طفل استطاع إنهاء المرحلة الثانوية من المدرسة بصعوبة، لا بسبب غبائه الشخصي فحسب، ولكن لأن المدرّسين أنفسهم قمعيّون وأغبياء، فكانت النتيجة أن ذلك الطفل قرّر الانتقام. ولأنّه لا يستطيع قتل أولئك المدرّسين فقد “قتل” في عقله “المدرسة”، وخاصّة جانبها التربوي- الأخلاقي.

هذا “التطوّر” يُسمّى في علم نفس النمو “النكوص”، أمّا في علم السياسة فليس ثمة تسمية مناسبة حتى الآن. فالتسمية النضالية القديمة “ردّة” غير مناسبة بالتأكيد، وغير جميلة أيضًا. فنحن نعيش في زمن التغيّرات السريعة التي تجعل من المبرّر إن لم يكن من الضروري إحداث مراجعة شبه يومية للمنهج والقناعات. لعلّ التشخيص الأدقّ هو ببساطة أنّ الفراغ النظري الذي أصبح سمة لهذه المجموعة المقصودة هنا بالهجاء قابل للتعبئة بأيّ أيديولوجيا بديلة. لكنّ المشكلة هنا مزدوجة. فهم أولاّ سينفون عن أيديولوجياهم الجديدة هذه الصفة الأيديولوجية. وثانيًا، وهو الأهم، أنّهم سيختارون نوعًا معيّنًا من “الأيديولوجيا” صرنا نعرفه من تجربة من سبقهم ممّن انتهوا إلى العمل في المصانع الأيديولوجية لليبرالية الجديدة والمحافظين الجدد. ولا يحتاج المرء إلى عبقرية أينشتاين ليكتشف أنّ من يفقد منهجه العلمي الواضح للتوجّه والقياس والتحليل سيرى نفسه متسوّلًا على أرصفة “الخبراء الاستراتيجيّين” أو “الإعلاميّين” و”المحلّلين الأمنيّين” في “معاهد الدراسات” المموّلة من أولئك المحافظين الجدد إيّاهم. وقد ترتقي درجة أصحابنا هؤلاء ذات يوم فيؤسّسون “معهد دراساتهم الخاص” فيؤمّنون بذلك لا المال والشهرة فحسب، بل والانتقام الناجز من “المدرسة”.

لنأخذ مقال “دفاعًا عن العقوبات ضد النظام السوري” للسيّد سمير التقي نموذجًا لما جاء في الفقرة السابقة. وقد نُشر المقال في مكان ذي دلالة رمزية كبيرة وهو صفحة البيت الأبيض بالعربية (أي باللغة القديمة لهؤلاء إيّاهم: قائد أوركسترا الإمبريالية العالمية، وإن كانت النوطة التي يدير العزف وفقها تُكتب في الوول ستريت). وها هو اللنك لمن يريد الاستزادة: https://whia.us/4059

لأبدأ بالاعتراف بوجود مشكلة حقيقية يواجهها كلّ من يريد إيقاف تدمير الدولة وإفناء الشعب في سوريا وفي الوقت نفسه يعرف أن وجود النظام الحالي يساهم في ذلك التدمير وهذا الإفناء. منذ اندلاع أولى شرارات الربيع العربي في سوريا كان لسان حال النظام يقول: “أنا أو الطوفان”. وعندما شعر بأن الأرض بدأت تتقلقل تحت أقدامه أطلق الرصاصة الأولى بادئًا -بوعي أو بغير وعي- حربًا أهلية تهدّد وحدة الدولة نفسها. لكنّ المعارضة لم تكن للأسف أكثر حذرًا في محاولة منع اندلاع تلك الحرب.

وضع سوريا الآن يمكن تشبيهه بطائرة اختطفها قراصنة وربطوا مصيرهم بمصير الركّاب. أسهل الحلول للتخلّص من القراصنة هو طبعًا قصف الطائرة بصاروخ. لكنّنا نكون بذلك قد قضينا أيضًا على الركّاب. هذا الحلّ لا يؤرّق طبعًا البيت الأبيض، ولا يبدو أنّه يمثّل مشكلة كبيرة لمعارض يكتب في جريدته مثل سمير التقي. لكنّ أي حريص على الشعب والدولة في سوريا عليه أن يفكّر بطريقة تساعد ركّاب الطائرة في التخلّص من القراصنة ثم النزول الآمن بالطائرة إلى مدارجها. صحيح أنّه ليس حلًا سهلًا، لكنّه الحل الإنساني الوحيد.

تتقاطع مسألة الحصار الاقتصادي للدول مع الكثير من المسائل الأكثر شموليةً ونظريةً، ولا يمكن فهم هذه إلاّ بتلك. من تلك المسائل النظرية مسألة نظام الهيمنة العالمي وفي مركزه نظام الهيمنة المالية طبعًا. وهو نظام يمرّ الآن في حالة “تململ”، إن لم نقل في حالة إعادة صياغة. وهو ما يجعل المركز المالي الإمبريالي أكثر شراسة من أي وقت مضى لكي يعيد الصيغة التي سادت العالم منذ بداية التسعينيات في القرن الماضي.

لكنّ ثمّة مسألة نظرية ليست أقلّ إلحاحيّة هنا، وهي مسألة التفريق ما بين الدولة والنظام. وخاصّة في بلد يوصف عادةً بأن النظام فيه يبتلع الدولة. تستمدّ هذه المسألة أهمّيتها من الواقع الفعلي الذي نراه في ممارسة المعارضة المسلّحة في سوريا والتي تتبنّى تلك المقولة، أي ابتلاع الدولة للنظام. وتكون النتيجة هي تدمير الدولة نفسها وهم مقتنعون بأنّهم يدمّرون النظام. وسأعود إلى هذه النقطة بعد الانتهاء من استعراض مقال سمير التقي، الذي كان المناسبة لفتح هذا النقاش.

لا بدّ لقارئ المقال المذكور أن يسأل نفسه، إن كان “التقي” يمثّل رسميًا الولايات المتحدة، عندما يقرأ له مثلًا: “تنظر الولايات المتحدة إلي العقوبات على أنها مجرد إعلان بأنها لم تعد راغبة في أن تكون هذه الدولة الناشزة أو تلك ضمن منظومتها الدولية التي تحميها وتديرها. وبذلك لا تكون العقوبات بديلًا للحرب فحسب، بل تصبح أدوات اقتصادية تهدف إلى تعديل سلوك الدول.” وطبعًا يتذكّر أي متابع للصحافة هذا التعبير “تعديل السلوك”، وقد يتداعى إلى ذهنه التعبير نفسه الذي يستخدمه المربّون عندما يتحدّثون عن أطفال أساؤوا السلوك في المدرسة مثلًا. و”الدولة المربيّة” هي الولايات المتحدة أما الدولة سيئة السلوك فهي هنا سوريا. بالمناسبة فالسيد التقي سوري، وكان قد وعدنا في عنوان المقال أن العقوبات ليست ضدّ الدولة، بل ضد النظام.

ويستمرّ “التقي” في لعب دور المتحدّث الرسمي باسم البيت الأبيض، وهؤلاء عادةً توكل إليهم مهمّة الكلام بلهجة عدائية وسجالية لا يفضّل الرئيس نفسه اللجوء إليها، من باب احترام المنصب. فيقول: “لا شك أن العقوبات هي بالنتيجة أرحم وأكثر استهدافًا من الصواريخ والبراميل الروسية.” يعني أنّ مقياس عدم التحمّل عنده هو “الوصول الى درجة الصواريخ والبراميل الروسية” فهو يستغرب انزعاج السوريّين من العقوبات ما دامت لم تصل إلى هذه الدرجة.

مشكلة هذه المقالة المستندة، على ما يبدو، إلى “دراسات” مجموعة سمير التقي نفسه، وهو يعبّر عنها بكلمة “دراساتنا”، أنّه لم يقرأ قانون قيصر. فالعقوبات التي يحدّدها ذلك القانون لم تقتصر على “الأفراد والمؤسسات الفاسدة ذات الصلة بالجهد العسكري” كما يقول سمير التقي. لقد شملت تلك العقوبات كلّ الروافع الاقتصادية الممكنة للدولة السورية، كالتنقيب عن الغاز والنفط مثلًا والقلب المالي للدولة كالبنك المركزي مثلًا، ولم يكن “المنبوذون” -أي الممنوع أي تواصل اقتصادي معهم- هم رجال النظام فحسب، بل والحكومة والدولة كشخصيّتين اعتباريّتين. كما أنّها لم تقتصر على الشركات الأميركية بل شملت كلّ شركة أخرى في هذا العالم يمكن أن تستثمر في سوريا. يمكن اعتبار قانون قيصر في نهاية الأمر مجرّد ترجمة اقتصادية لفعل الخنق المتدرّج ولكن الكامل والنهائي لأي دولة.

العقوبات الأميركية/الدولية على الدولة السورية هي ببساطة أيضًا عقوبات على المجتمع السوري وفق التعريف البسيط للدولة وباستقراء نص القانون نفسه، قانون قيصر. الهدف منها توصّل إليه السيد التقي بعبقرية يُحسد عليها، وهو أن “يعيش النظام على جثة المجتمع”. نعم هذا ما حصل في العراق وهذا ما يحصل الآن في سوريا. النظام سيستمرّ في الحياة، لكنّ المجتمع سيتحوّل إلى جثّة. هل هذا هو المطلوب؟!

الواقع الفعلي يقول إنّ مافيا النظام لم تستمرّ في الحياة في ظلّ الحصار الاقتصادي فحسب، بل ازدهرت مادّيًا أكثر. لقد أنشأت نظامًا للتهريب ولاستغلال حاجة الناس لا يمكن لها أن تستمتع بمثله في ظلّ رفع العقوبات.

أذكِّر هنا بأن إسقاط النظام في العراق تمّ بعملية عسكرية وليس بالعقوبات. أما العقوبات التي طُبّقت هناك فقد حوّلت المجتمع فعلًا إلى جثّة اقتصاديًّا وثقافيًّا، لم يتغيّر حالها حتّى في ظلّ عشرين سنة من حكم الطبقة الفاسدة التي نصّبتها الولايات المتحدة في بغداد. والخاصّ هنا -والذي لا يتمّ التركيز عليه عادةً- هو أن الخنق الاقتصادي أدّى في العراق إلى خنق ثقافي وأخلاقي -أي خنق للوعي الاجتماعي- انتهى بتطييف المجتمع والسياسة ومن ثمّ الدولة ككلّ. وكنت قد تابعت تشكيل النظام السياسي الطائفي في العراق خطوة خطوة في كتابي “أفكار حافة الهاوية”، والدور الأميركي فيه. ويبدو أن تلك التجربة العراقية أعجبت البيت الأبيض وهو يريد تكرارها في سوريا.

تأثير العقوبات والحصار الاقتصادي على العراق المدمّر للمجتمع والدولة معروف على كلّ حال للجميع، تمامًا كما هو معروف أنّ الهدف الذي تمّ إعلانه لفرض ذلك الحصار -إضعاف وتركيع نظام صدام

حسين- لم ينجح ممّا جعل الأميركان يلجؤون إلى الاحتلال العسكري المباشر. ولذلك كلّه لم يذكر السيد سمير التقي مثال العراق ليثبت فرضيته بفائدة العقوبات، وإنما اخترع حالة لا علاقة لها نظريًا بموضوع مقاله، وهي الحرب الباردة ما بين روسيا وأميركا. يحوّل “التقي” تلك الحرب الباردة إلى نظام عقوبات أميركي على الاتحاد السوفياتي نجح في إسقاط النظام هناك. لا يمكن أن “نعتب” على التقي طبعًا بسبب هذا الخطأ النظري الكبير، فهو قد هجر النظرية، كما نعلم. ولو لم يفعل لتذكّر الفرق الهائل ما بين اقتصاديّات دولة عالم ثالث يحكمها نظام مافيوي فاسد “مبندق” من ناحية النظام الاقتصادي وبين اقتصاديّات دولة رأسمالية دولة بيروقراطية كبرى كالاتحاد السوفياتي سابقًا. والفرق الهائل ما بين آليات السباق الاقتصادي والعسكري/التكنولوجي الذي كان جاريًا بين الدولتين القطبين وما بين علاقات التبعية الاقتصادية والعسكرية التي تشبه “الشوربة” غير المتجانسة التي سيطرت على سوريا في مرحلة سيادة القطب الواحد.

ولكن لنعد إلى النقطة المركزية في هذه المقالة، أي التفريق بين عقوبات على النظام وعقوبات على الدولة. إذ يُفترَض أن يكون الوطنيّون ضدّ إضعاف الدولة وتفكيكها. سواء أكانوا من أصدقاء أو من أعداء النظام. فالدولة هي مجرّد الاسم السياسي للوطن نفسه، إذا انطبقت حدودها على حدود الوطن طبعًا. فلنرَ إذن كيف يصف “التقي” ما يحدث على صعيد وحدة الدولة:

“.. وبفضل ذلك نجد اتساع التفكك في الوحدة الاقتصادية للبلاد. فبحسب دراساتنا، لا يتجاوز قطر الدائرة الاقتصادية للإنتاج والتوزيع 70 كيلومترًا على المستوى المحلي، ما يعني أن الاقتصاد السوري عاد تقريببًا إلى ما كان عليه بعد انهيار الدولة العثمانية، إن لم يكن أسوأ. وتصبح هذه الحقيقة أوضح بشكل خاص بسبب التسرب المتفاقم للمهارات الشابة العليا والمتوسطة، بل من الشرائح الأقل تعليمًا أيضًا.

من جانب آخر يتحول الاقتصاد المحلي للمناطق الطرفية نحو الاندماج مع أقرب اقتصاد مجاور نشط. وهو بذلك يفلت من العقوبات. ونتيجة ذلك تحولت أجزاء من سوريا إلى أقاليم ملحقة بحكم الأمر الواقع مع جوارها التركي واللبناني والأردني والعراقي.”

نسأل ناشر هذه الدراسات، أي سمير التقي نفسه، هل هذا الإلحاق لأجزاء من سوريا بكل من تركيا ولبنان والأردن والعراق هو تفكيك للنظام أم للدولة؟

أخيرًا أذكِّر للقارئ هنا بأن انطباعي من خلال القراءة المتكرّرة للمقالة التي أنتقدها هنا أنّ كاتبها لم يشغل نفسه أبدًا بهذا السؤال المركزي. ولعلّ ذلك يدلّ على أنّه لم يحاول أبدًا، بينه وبين نفسه، أن يفرّق نظريًا بين هذين المفهومين: النظام والدولة. هذا التفريق يحتاج إلى نظرية. لكنّ هذه بالذات، أي النظرية، كان قد تمّ قتلها في الخطوة الأولى على طريق الردّة.

ولكن هل تركت لنا النظرية أي نقاط ارتكاز نعود إليها عندما تخلط غيوم الواقع الحدود ما بين المفاهيم؟

هناك طريقتان للتأمّل في هذه المسألة: الأولى “وصفية مدرسية” تقول ببساطة إنّ الدولة هي اجتماع عناصر ثلاثة: الإقليم (مساحة من الأرض معروفة الحدود)، والشعب الذي يعيش داخل حدود ذلك الإقليم، وجهاز السلطة الذي يحكم ويدير شؤون ذلك الشعب. على الرغم من الشكلانية المفرطة في عدم تحليليّتها لهذه الرؤية فهي تحتفظ على الأقل بفضيلة الوضوح. كما أنّ ثمة ما يجمعها مع طريقة “التقي” في التفكير وهو عامل “السذاجة النظرية”. لذلك فأنا سأسمح لنفسي بسؤاله إذن حول ما سيحدث للإقليم وللشعب في حالة اعتبارنا “أنّ السلطة/النظام قد التهمتهما. ولذلك فيمكن تجاهلهما كبعدين منفصلين والتركيز على تدمير النظام”.

أما الطريقة الثانية للتأمّل بهذه المسألة فهي تحليلية تناقش نظرية الدولة. وباعتبار أنّها عمومًا تتساءل عن أصل السلطة المتحكّمة في الدولة وعلاقتها بصراع القوى في المجتمع وكيف تطوّر ذلك كلّه فهي لا تعطينا جوابًا مباشرًا عن مسألتنا النظرية هنا، أي العلاقة ما بين النظام والدولة وعلينا استخدامها كما يستخدم أي باحث أي نظرية، أي كمجموعة تجريدات ينبغي “تكثيفها”، أي تحويلها إلى مادّة ملموسة. ومن الواضح أنّ الاختلافات هنا ليست دائمًا خلافات أي صراعات، ولكنّها قد تكون اختلاف مناهج وطرق بحث تستلزمها الحقول المعرفية. فالأنثروبولوجي سيبحث مسألة ضرورة، أو لا ضرورة، أو شروط وجود الدولة (وفي خلفية التفكير يكمن مفهوم السلطة) فيصل مثلًا إلى وجود “مجتمع اللادولة” -كلاستر-، أو “مشاعية العشيرة”-لويس مورغان- بينما يركّز الاقتصادي-السياسي على الوظيفة الاقتصادية -كينز- أو الوظيفة الطبقية -ماركس- أو الوظيفة التسييرية -لوفيفر- للدولة، أو وظيفة “المكثّف العام لصراعات الطبقات وممثّليها على كل الأصعدة” -بولنتزاس- الخ، الخ، الخ.

كائنةً ما كانت المرجعية النظرية للباحث فلا بدّ له من التوقّف طويلًا عند “صدمتين كبريين” جابه بهما الواقع النظرية. الصدمة الأولى كانت لتوقّع ماركس أن مصير الدولة هو “الاضمحلال” بعد مرحلة “ديكتاتورية البروليتاريا”. لم تضمحلّ الدولة في التجربة اللينينيّة، بل حصل العكس، وخاصّة في ظلّ الحكم الستاليني. ولم تحدث تجربة أخرى في الاتجاه المعاكس.

الصدمة الثانية هي تراجع البورجوازية عن مبدأ “أقلّ ما يمكن من تدخّل الدولة في الاقتصاد” وتبنّي “الكينزية” التي تنصح بذلك التدخّل، وهو ما يجري تطبيقه في كلّ رأسماليّات العالم المعروفة.

إذن فلا بدّ من ذلك “اللوياثان”. وعلى من يكرهه أن يجد طريقة لترويضه، من أجل التعايش معه. ولكن عليه من أجل ترويضه أن يفهمه، أن يحلّله.

يندرج النقاش السابق في إطار عام يصلح لأي دولة. لكنّنا في هذه المقالة نعالج دولة من نوع خاص: ديكتاتورية ذات سمات فاشية وتوتاليتارية، حيث لا يكتفي جهاز السلطة بالتحكّم في وظيفة احتكار القمع المادّي و”الوظيفة التسييرية”، بل ويتغلغل في كل المفاصل الكبرى والصغرى لحياة المجتمع اليومية؟ كيف يمكن التخلّص من نظام كهذا من دون تدمير المجتمع نفسه؟ قد تفيدنا هنا جملة يقولها هنري لوفيفر بهذا

الخصوص: “لا تضمن الدولة الحديثة فقط إعادة إنتاج العلاقات الاجتماعية (للإنتاج)، وإنما إعادة إنتاج علاقات الهيمنة”. وهي قاعدة تنطبق على أي دولة حديثة، شرقًا وغربًا. شمالًا وجنوبًا. الهيمنة هي شبكة علاقات، لكنّها ليست بلا مركز. ما نسمّيه “نظام” (كمقابل لـ “دولة”) هو فقط مركز تلك الشبكة. إذا أضفنا إلى هذه المقاربة مقاربة بولنتزاس حول خطورة المرحلة الانتقالية، حيث الإبقاء على “البنى الاقتصادية للنظام القديم” في مرحلة الانتقال هو مسألة حياة أو موت لأي تغيير قادم، بما فيها الإبقاء على “الجهاز الاقتصادي للدولة -وهو ليس نفسه الجهاز القمعي طبعًا-“لأنّ ذلك يؤمّن الأساس المادّي لإمكانية حياة البنى الجديدة التي ستغيّره طبعًا في ما بعد، نفهم خطوات “العمل الجراحي” الذي يجب أن يقوم به أي ثائر تدفعه “الثورة” لا “الثأر” للقيام بالتغيير. إنّ تغيير علاقات الهيمنة هو المطلوب وليس تدمير طرفيها.

لم تجر الأمور في سوريا للأسف في هذا الاتجاه. لكنّ المشكلة ليست في الممارسة فحسب، وإنّما في الفكر أيضًا. في نهاية كتابه شبه التعليمي “مفهوم الدولة” يذكر عبدالله العروي إلحاح مفاهيم ثلاثة على تفكيره لدى بدئه بمشروع الكتاب وهي مفاهيم العقلانية والحرّية والدولة. أمّا لماذا هذه المفاهيم الثلاثة فهذا هو جوابه: “لا ينضج الفكر السياسي في أي مجتمع كان إلاّ بعد أن يتمثّل بجد المفاهيم الثلاثة الحرية، الدولة، العقلانية في آنٍ واحد”.

لا يقتصر “حقل اشتغال” مفهوم العقلانية على “الترشيد البيروقراطي” لعمل الدولة كما هو الأمر لدى ماكس فيبر، بل يشمل الخروج من “العدمية” التي تكاد تسيطر على تفكير المواطن العربي لدى تفكيره بالدولة. وهي عدميّة تتمظهر بالمراوحة ما بين الدولة كطوبى (خلافة، عدالة مطلقة، مشاعية..الخ) أو كشرّ مطلق ينتظر نهايته على أيدي ثوّار ما في زمن ما لن يأتي أبدًا.

حسين شاويش

مواليد 1953 في أسرة فلسطينية لاجئة إلى سوريا، دكتور في الطب البشري وعلم النفس، مقيم في برلين منذ عام 1990. لديه عدة إصدارات، منها: (أفكار حافّة الهاوية، أو إعادة صناعة الطوائف)، دار ابن رشد، اسطنبول 2022. (الرماد الثقيل، أو الطائفية جذورًا ومصائر)، دار الفارابي، بيروت 2017. (الإسلام عشقًا)، دار بعل، دمشق 2014. (سفر بين العوالم)، دار السويدي، أبوظبي 2009، الحائز على جائزة ابن بطوطة. ولديه مساهمة في كتاب علم نفس الشخصية المستلبة لمحمّد شاويش، دار أرواد، سوريا 2016، ومجموعة من المقالات والريبورتاجات والقصص الصحفية، والتي حازت إحداها على جائزة القصة الصحفية لمركز “بديل”.

مشاركة: