Search

الحاجة ليست إلى فلسفة عربية.. بل إلى ثورات فلسفية عربية

في النظر في السؤالين اللذين طرحتهما ميسلون للثقافة والترجمة والنشر على القرّاء في اليوم العالمي للفلسفة، “هل هناك فلسفة عربية؟” و “هل للفلسفة دورٌ في هذا العصر الذي يوصف بأنه عصر العلم؟”، أجد أن هناك ترابطًا عميقًا بينهما. وعليه، سأجيب عنهما معًا في إجابة واحدة. 

يتناول كلّ من السؤالين بوضوح أحد طرفي ثنائية الإيديولوجي/المعرفي، الذاتي/الموضوعي، الخصوصي/الكلّي. لذلك، بدلًا من الخوض النمطي والعقيم في الدفاع عن أحد طرفي الثنائية والتصدي للطرف المضاد الثاني، أي مثلًا في دفاع عن ما هو عربي وهجوم على ما هو غربي، وهو دفاع غالبًا ما يحمل نزعة أصولية متسلّطة ويدعو إلى “العودة” إلى التراث والأصل، أو دفاع عن ما هو غربي وهجوم على ما هو عربي، وهو هجوم غالبًا ما يحمل نزعة مركزية أوروبية متسلّطة، بدلًا من هذا وذاك، أجد أن سؤالًا سابقًا على هذين السؤالين يجب طرحه، وهو ما المقصود بـ “العربي”، “العلمي”، “الفلسفي” هنا. فالعلاقة بين أطراف الثنائيات لا يحكمها التناقض المعرفي بقدر ما يحكمها التناقض الإيديولوجي، وفهم هذه المصطلحات لا تحكمه الصحة بقدر ما يحكمه الفهم المتداول والشائع الذي يخلط بين المصطلحات. 

إن السؤال عن وجود فلسفة عربية، أولًا، يضفي على الفلسفة طابعًا جوهريًا ثابتًا من الناحية الجغرافية واللغوية والثقافية، وهنا يجدر بنا أن نستفسر عن الحدود الجغرافية المقصودة لهذه الفلسفة العربية، التي تفصلها عن الحدود الجغرافية للفلسفة الغربية، وكيف تصبح مثلًا الفلسفة اليونانية، التي يبعد مقرّها في أثينا 2500 كيلومتر عن دمشق، والتي ساهم فيها فلاسفة سوريون مثل نومانويس وداماسكيوس ولوقيانوس وفرفوريوس ومصريون مثل أفلوطين وأمونيوس السقاص وإكليمندس الإسكندري، فلسفة غربية يتبجح بها مواطن كَنَديّ مثلًا يسكن في الجهة الثانية من الكرة الأرضية، ويشعر العربي حيالها بالغرابة وعدم الانتماء ما يجعله يتوه ويبحث عن فلسفة تخصّه؟ ثانيًا، إن السؤال عن وجود فلسفة عربية، والإلحاح على البحث عن خصوصية عربية فلسفية، بعد أن احتكرت الفلسفة الغربية العقل والكلمة واللوغوس، هو قذف تلقائي رياضي للعربيّ إلى خارج حسابات العقل، إلى العاطفة والإحساس واللاعقلانية، وهو تقييد للعربي ببحث عقيم عن فلسفة غير موجودة إلا لدى الغرب. ثالثًا، إن السؤال عن وجود “فلسفة عربية” يضع الفلسفة العربية تلقائيًا خارج العلم ويجعلها ذاتية خاضعة لوجهات النظر، وغير موضوعية، ولا يُبنى عليها. والادعاء الشائع أن الفلسفة غير علمية، أو لا يمكن أن تكون علمية، أو يجب ألا تكون علمية، هو ادعاء باطل وبعيد عما جرى ويجري اليوم في عالم الفلسفة، حيث نجد أن الفلسفات “الغربية”، التحليلية بصورة خاصة، قائمة على نوع من أنواع العلم، وكان تطوّرها مرهونًا بالثورة الإبستمولوجية (علم المعرفة أو علم العلم) الكانطية ثم فهم أشكال المنطق الشكلي وإدخال الاختصاصات العلمية الجديدة المختلفة إليها (علوم النفس والدماغ والأعصاب والعلوم الإدراكية). غير أن الخلاف الجوهري بين الفلسفات “التحليلية” وتلك “القارية” (نقد بوبر وراسل وغيرهما للمنطق الهيغلي) كان حول فهم العلم وما يُعَدّ علميًا ومنطقيًا في الفلسفة وما يُعَدّ غير ذلك، فحتى الفلسفات القارية سعت ومازالت تسعى إلى أن تكون علمية من خلال اتباع النقد والمنطق العلميين، باستثناء بعض التوجهات الثانوية وبعض التيارات ما بعد الحداثية. وعليه، إن السؤال عن فلسفة عربية بطبيعته يُفضي إلى السؤال الثاني “هل للفلسفة دورٌ في هذا العصر الذي يوصف بأنه عصر العلم؟”

إن السؤال عن فلسفة عربية نفسه في حاجة إلى مساءلة، ولا يكون له معنى إلا ضمن إطار فكري معين. وهذا لا يعني أنه ليست هناك حاجة إلى حركة فلسفة عربية اليوم، أو ليست هناك حاجة إلى وجود فلاسفة عرب حسب المعطيات الزمنية والجغرافية والثقافية الحالية، أو أن الفلسفة لا ترتبط بالثقافة وعناصرها اللغوية والنفسية والطقسية، أو أن الثقافة العربية ليست لها حركة تاريخية خاصة لإنتاج فلسفة خاصة، لكن “الفلسفة” التي يجري عليها الكلام ليست “الفلسفة” نفسها، و”العربية” التي يجري عليها الكلام ليست “العربية” نفسها، بل هي “عربية” أنتجها منطق ديني معين ومنطق غربي معين، و”فلسفة” أنتجها منطق علمي معين يحتاج إلى النقد والتفكيك والمساءلة. 

وعليه، من دون قلب السؤال رأسًا على عقب، تستحيل الإجابة عن هذا السؤال، ويستحيل إيجاد فلسفة عربية. 

إن القبول بالبحث عن فلسفة عربية باسم الخصوصية الثقافية يجعل الفلسفة مجرد تمثيل من بين تمثيلات أخرى كثيرة، ما يجعل الفلسفة العربية فلسفة إيديولوجية بالضرورة، وغير علمية بالضرورة، وما يبقيها مهمَّشة وخارجية. إن القبول بالبحث عن فلسفة عربية هو قبول بتساوي جميع الفلسفات على الكرة الأرضية (ماذا نعرف عن فلسفات شرق آسيا وتطوّراتها؟)، وهو أمر عار تمامًا من الصحة. 

من ناحية أخرى، إن إمكان وجود فلسفة عربية يتوقف على فهم واقعها وموقعها، حيث لا يتساوى موقعها مع مواقع الفلسفات الأخرى. تُنتَج الفلسفة إنتاجًا، لا توجَد إيجادًا، تُنتَج في علاقات معرفية، في صراع معرفي مع السلطة السياسية (المتحكّمة بما هو ديني وثقافي) التي تمتلك أدوات إنتاجها الأولى من جهة، وفي صراع مع المنطق الاستشراقي الذي يحتكر مصطلحات وشروط إنتاجها الثانية من جهة أخرى. تكتسب الفلسفة من خلال هذا الصراع الطابع الكلّي والموضوعي والعلمي أولًا، لا الخصوصيّ، تكتسب وجودًا حقًا وصوتًا مسموعًا تفهمه اللغات كافةً، ولا تكون فلسفة عربية ذات خصوصية معينة إلا بعد اعترافها واعتراف الجميع بكليّتها، حينها تتمظهر وتتجسد في خصوصية ثقافية، وتتخذ شكلًا عربيًا بعناصر عربية ولغة عربية وقضايا عربية، وتكون هذه الخصوصية استمرارًا لكليّتها. إن الخصوصي والفردي، كما يرى هيغل، ليسا “آخر” الكلي، وليسا نتيجة له؛ بل هما الكلّي نفسه في شكل الخصوصي والفردي. 

يعرف كل مطّلع على تاريخ الفلسفة من جهة، وتاريخ العلم من جهة أخرى، أن تاريخهما ليس تاريخ تجدد الحقل الفلسفي والحقل العلمي، ليس تاريخ التطوّرات العلمية والأفكار الفلسفية، ليس تاريخ إنتاج الإسهامات الفردية، ليس مجموع الاكتشافات أو تراكم الإبداعات الفردية، سواء أكانت شرقية أم غربية، بل هو تاريخ الصراعات والثورات العلمية والصراعات والثورات الفلسفية، الثورات التي تُحدِث انقطاعات وفجوات وتغيرات بنيوية في التاريخ نفسه، فتُخلَق فلسفات وتولَدُ علوم جديدة، ولا تنتشر هذه العلوم والأفكار ولا تسود في النهاية إلا سياسيًا. وفي هذا الصدد، يذكر توماس كون، في كتابه المهم “بنية الثورات العلمية”، إن العلم ليس نظامًا تراكميًا من المعارف الجزئية، أي حتى العلم لم يخضع للمنطق الخطي، أو للمنطق التراكمي، كما يُزعَم، بل خضع لفجاءات وتغيرات كبرى حرَّضت عليه، حرَّضت على اكتشافات واختراعات علمية معينة. ومن دون هذه الفجاءات، أي هذه الثورات، ما كان ممكنًا بلوغ ما بُلغ في العلم. 

تطور العلم كان على صورة ثورات متلاحقة، كل ثورة لها نموذجها الخاص، أي البارادايم الخاص بها والمستمد من نظرة جديدة إلى العالم، ولا تكون هذه النظرة سائدة ومسيطرة ومصادق عليها إلا بفعل السياسة. وقد يكون المثال الأفصح على ذلك هو ظاهرة العنصرية العلمية في الغرب، التي سادت بين القرن السابع عشر والقرن التاسع عشر، ولاتزال آثارها قائمة، والتي اعتمدت على الأنثروبولوجيا والبيولوجيا والطب لتثبيت مزاعمها، واستُخدمت لتبرير الاستعباد والاستعمار والمجازر التي ارتُكبت في حق الشعوب الأفريقية، حيث بُرِّرت العنصرية علميًا، لتثبيتها سياسيًا. ولم يكن العلم وراء إنهاء هذه الظاهرة، لم تكن الاكتشافات العلمية والطبية والبيولوجية التي أدت إلى إنهاء العنصرية أو الاستعباد أو ظهور الخطابات المناهضة للعنصرية. إن تمرّد الشعوب الأفريقية على العبودية في أميركا، وانتشار النزعات التحررية والثورات الاحتجاجية والحركات الاجتماعية، هو ما أدى أولًا إلى التعديلات الدستورية لجعل العبودية غير قانونية وتحرير العبيد، ثم أدى إلى تغيّر في المزاج العام، وظهور بارادايم جديد مفعم بمفاهيم الحرية والمساواة، ما حرَّض العلم على البحث المتعمّق، وتغيير أدواته، والوصول في النهاية إلى نتائج علمية تنفي مزاعم العنصرية العلمية. والأمر نفسه ينطبق على الفلسفة. وكثير من الكتب والكتّاب قد تحدَّثوا عن ذلك. 

يطول الحديث في هذا الموضوع، وتكثر الأمثلة والبراهين، ولا يمكن الإلمام بجوانب الموضوع كافةً هنا، لكن ما يمكن قوله في هذا الشأن: إن ما نحتاجه من أجل الوصول إلى فلسفة عربية تخصّنا وحدنا ليس تجميعًا لأفكار فلسفية من هنا وهناك، ليس تشجيعًا لفيلسوف هنا وفيلسوف هناك، ليس مأسَسةً لفلسفة هنا وفلسفة هناك. إن ما نحتاجه، بالأحرى، لفلسفة عربية تخصّنا، هو الحضور في الفلسفة الكلّية وغير العربية، هو الحوار الصراعي (غير العنيف طبعًا) مع الفلسفات غير العربية، هو الحوار الصراعي أيضًا مع ما هو عربي (فلسفي أو ثقافي أو ديني) بكرامة، لا بالتسوّل ولا بالتغطّرس، وبتسمية الأشياء بمسمياتها، هو الإيمان بأن الفلسفة لنا بقدر ما هي لهم، هو الإيمان بأن فيلسوفًا عربيًا يتحدّث عن الحيوانات لا يقلّ أهمية عن فيلسوف يتحدّث عن السياسة، هو الوجود في المجالات الفلسفية كلها، وليس المجالات التي “تخصّنا وترتبط بقضايانا فحسب”، هو إحداث ثورة في فهمنا للفلسفة وفهمنا للعلم، وفهمنا للخصوصي والعربي في الفلسفة الذي لا يمكن أن يكون منفصلًا تمامًا عما هو كلّي وعلمي وعالميّ، وفهمنا لطبيعة حاجتنا إلى الفلسفة، وفهمنا للحدود المتخيَّلة للفلسفة، وفهمنا لدورنا فيها ولموقعنا الذي يجب أن ننطلق ونثور منه. 

ما نحتاج إليه اليوم ليس فلسفة عربية، بل ثورات فلسفية عربية. 

نور حريري

مهندسة وكاتبة ومترجمة. ماجستير في الفلسفة. حائزة على المركز الأول في مسابقة القصة القصيرة لعام 2016 التي ينظمها المعهد الأوروبي للبحر الأبيض المتوسط في برشلونة، إسبانيا. لها عدة ترجمات منشورة منها: مفترق الطرق: اليهودية ونقد الصهيونية لجوديث بتلر، سُبُل النّعيم: الميثولوجيا والتحوّل الشخصي لجوزيف كامبل، الحياة النفسية للسلطة: نظريات في الإخضاع لجوديث بتلر؛ وعدة أبحاث منشورة منها: الترجمة تفكيكيًا: الخطاب النسوي نموذجًا، جوديث بتلر: أدائيات الذات.

مشاركة: