Search

الثقافة والمهمة الشاقة: التنوير وتنعيم الحواف الحادة

توطئة

الوقوف في أحد أضلاع المربع يتيح رؤية أضلاعه الثلاثة الأخرى، رؤية لا تكتمل معها كلّية المربع. ومن أيّ زاوية أخرى لن تتحقق الرؤية المكتملة إلا إذا تمّت من خارج الصندوق/ البعد الثالث؛ لكلّية المربع مساحةً وأضلاعًا وزوايا ومحددات وجوده العام حسّيًا ومعنويًا.

البعد الثالث ليس قضية هندسية فحسب، بل طريقة الفكر، العقل، النظرية، في رؤيتها للواقع؛ والواقع ليس جمل مادية محض تتسم بالقياسات العلمية. الواقع مترابط ومتعدد الأبعاد يكتنفه الاجتماع الإنساني، الاقتصاد، الفكر والفن والأدب والمشاعر والإيمان، ومناهج الفكر وطرق التفكير؛ والتي تختلف فيما بينها منهجيًا، فكيف إذا كان بذاته متداخل الأبعاد متباينًا وحادّ الزوايا؟

رؤية الواقع متعدد الأبعاد، الاقتراب منه موضوعيًا، تشكل صورة وصور عنه، استحداث طرق فهمه وإدراكه، تتجلى وتتعين ثقافيًا بموضوعة “الوعي المقارب”. تلك التي فصلها ياسين الحافظ والياس مرقص في نقد العقلانية العربية ثقافيًا. الرؤية متسعة الأفق والأبعاد هي ذاتها إشكالية وسؤال الثقافة والقدرة على الفهم الموضوعي والملامسة الحسّية المفهومية له. تلك المساحة التي تمكّن الرّائي من الإلمام بالواقع متعدّد ومتباين التعيّنات. وهذه موضوعة تختلف جذريًا ونوعيًا عن طرق التوجّه الغرضية سياسيًا وأيديولوجيًا بقراءة الواقع إيجابًا أو سلبًا، بحسب زاوية الرؤية المحددة بمناهج وبرامج عمل السياسة ومشاريعها. الصراع والتنافس حادّ الحواف والزوايا؛ هو منتج هذا الاكتفاء برؤية ومنهجية هذه الاستقطابات من إحدى زوايا الواقع فحسب، فيما الفعل الثقافي فعل مختلف، إحدى أسمى مهمّاته تنعيم هذه الحدّة، والانفتاح على أفق أرحب وأكثر اتساعًا زمنيًا، والتنوير كعقل مستدام لا يتوقف على زمن.

في توطئة أولى تخرج عن سياق التنظير؛ تحاول ملامسة آلامنا ووجداننا، تحاكي قضايانا وكوارثنا، وما أكثرها قضايا السوريين والشرق عمومًا، وما أشدّ قسوتها، وما أكثر حوافنا الحادّة

الجارحة! إذ تسود بين أطياف السوريين ثقافيًا وسياسيًا وأيديولوجيًا شتى صنوف الحدّة، لدرجة يصعب معها ترويض النفوس لوعي مقارب يدرك المسألة من بعدها الثالث على الأقل. فالموقف التضامني مع حقوق السوريين الذين اقتُلِعوا من بيوتهم والمشردين في الخيام ودول اللجوء، وأكثريتهم المطلقة المنتمين دينيًا للإسلام “السنّي”؛ يواجه بتهمة الإرهاب الجاهزة سلطويًا، وتهمة الانتماء للجماعات الإسلامية “ماركسويًا” و”قومويًا” و”عَلمنة” تصدمك لدرجة تهمة الأخونة القطرية والتركية! ولو توقفت مع حقوق السوريين “الأكراد” فيما تعرضوا له من طرف فصائل التطرّف الإسلامي، أو الزحف التركي السابق والأخير، فستتهم بالانفصالية والتبعية للأجندات الإقليمية من جانب كلّ الجهات السلطوية والمعارضة. ولو دافعت عن حق الشباب “الدروز”، كما باقي الأقليات، بالحياة من دون خوض معارك عسكرية مجانية خاسرة وطنيًا؛ فستتّهم بالمثقف “الأقلوي” من جانب كلّ صنوف المعارضة، وبالداعم للحركات الخارجية والانفصالية سلطويًا، فكيف إذا دافعت عن حرية المرأة وحقها في الحياة وخياراتها في لبس الحجاب أو خلعه؟

الجميع ينظر من زاويته الضيقة بحسب مصلحته وتوجّهه السياسي، وقلما تجد من يدرك البعد الثالث ويقول إنه حق السوريين متعدّدي المظالم، متعدّدي الانتماء: الأهلي والمجتمعي والديني والسياسي… الذي فرضته الجغرافيا والتاريخ وعدم حسم مسيرتهم وثورتهم إلى اليوم بالتغيّر الذي يفضي إلى تحقّق دولة المواطنة. حيث إن الموقف التضامني مع أيّ سوريّ هو موقف من المواطنة، من الحقوق المدنية، من الحريات العامة والخاصة، من حق الحياة والاستقرار والأمان وسواد القانون وتحقيق العدالة؛ وبالضرورة مصلحة الكلّية السورية. هو موقف إنساني وعصري، يرتقي لمصاف القدرة على تحميل الثقافة أبعادًا أرحب قلّما نتعامل معها، لا من موقع وحيد توجّهه المصلحة وبرامج العمل السياسية.

في الثقافة والمثقف

الحرية والتغيير متلازمان، إذ لا تغيير ممكن بلا تحقّق الحرية، ولا حرية بلا تغيير عام في البنية المجتمعية سياسيًا وفكريًا وحقوقيًا واقتصاديًا، حيث إن حرية الفكر والثقافة والموقف الفردي لا تعني القدرة على التغيير. إذ ليس من الإنصاف اعتبار الثقافة والمثقف صاحب الدور الأساسي في التغيير حتى وإن امتلك ناصية حريته الفردية، ومثله حرية الأفراد الشخصية. لكن ثمة ضرورة زمنية راهنة ومستقبلية يتحمّلها المثقف في قدرته على فرد مساحات الحوار في صنوف المسائل والمشكلات شتّى: المعرفية منها والحياتية والاجتماعية والسياسية، وأيضًا قدرته

على امتلاك أدواته المعرفية القادرة على تنعيم الحواف الحادة السائدة مرحليًا؛ أيديولوجيًا وسياسيًا، هذا إضافة إلى دوره التنويري العام الذي لا يتوقف عند زمن.

في كتابه “العرب والفكر التاريخي” يرى عبد الله العروي أن مهمّة المثقف تنصبّ على كسب الساحة المجتمعية لا السياسية والسلطوية “فالمثقف ليس عليه بالدرجة الأولى الاستيلاء على السلطة السياسية؛ بقدر التمكّن المعرفي من الحقل الاجتماعي الشعبي”، والمسألة الواجب إثارة الجدل حولها هي الدور المنوط بالمثقف كمشتغل بالكلّيات الإنسانية والمفاهيمية، وحوارها يتخطى المسألة المعرفية ونظرية الكون والمعرفة؛ إلى موقع ودور المثقف إزاء القضايا الراهنة، وموقفه من كلّياته التي عُرّف على أساسها أنه “مثقف”. موقف المثقف أخلاقيّ وتنويريّ وابتكاريّ بالمبدأ، وتلامسيّ بالإحساس والوعي بالواقع ومتغيراته، وفاعل ومسؤول وبوصلة عامة في القضايا العامة. إذ إنه لا يكتفي بالتنظير الفكريّ بقدر الاندياح في الواقع الحسّي والماديّ؛ مُترجِمًا ثقافته وفكره فيه ممارسةً وفعلًا، فالغريق لا يحتاج إلى شرح علوم الهندسة وميكانيك السوائل لإنقاذه، ربما يحتاج إلى قشّة، إلى يد تمتد إليه، أو إلى بعضٍ من نور.

دور المثقف سؤال بحثي مهمّ سواء في حالة الاستقرار عامة، أو في خضمّ الثورات خاصة، حيث تتضح اللحظة المغايرة في تاريخ الشعوب ومسيرة وصيرورة تشكّلها. هو سؤال المثقف وكلّياته في مواجهة مرآة الواقع. وظيفته الأسمى هي نقل المعرفة من كلّياتها إلى الواقع الاجتماعي العمومي عبر اللغة والكلمة والحوار، والولوج فيما خفي عن الرؤى واحديّة التوجّه، واجتياز المسافة بين المادي/ المباشر وغير المرئي من معرفة وتعقّل، وانتقال شاقّ من عالم الألوهية والمُثل وعلية التنظير؛ إلى عالم الاجتماع الإنساني، هي دور “هرمس” الذي اتخذه في نقل المعرفة الإلهية إلى البشر.

الانتقال من عالم الكلّيات المعرفية ومُثلها المطلقة، وتجاوز شرك المقولات الجاهزة إلى أبعاد الواقع الإنساني؛ هو موقف المثقف الممكن وخياره الوحيد. وإلا فإنه سينزاح تجاه التوجّه السياسي وحيد الاستقطاب (مع) أو (ضد)، واختلاف الأجندات والمشاريع. هو تحوّل لموقع المتماهي مع الوضعية والتبريرية، والهوام؛ مع جهةٍ دون غيرها. فكيف إذا أسند إلى نفسه ومعرفته الدور التبريري للعنف والقمع السلطوي والأمني أو الميليشوي كما يحدث في سورية؟ العنف الذي هو أهم تجلّيات الحالة السورية كحالة عقابية سلطوية للمجتمع، وردّة الفعل عليها في العنف المضاد، وبينهما تداخلت السياسة وتنازعت الأيديولوجيا في اتجاهات عدّة متباينة. العنف -بحسب حنة

أرندت- هو ما يجب نبذه من عالم الاجتماع البشري والسياسة. لا غرابة في أن نجد أن ثمة ارتباطًا عضويًا بين نماذج عدّة من “التثاقف” و”المثاقفة” مع حيازة السلطة الكلّية سياسيًا ونموذجها القمعي كما يصفها ميشيل فوكو في فلسفة السلطة: “السلطة العقابية تندمج ضمن مجموعة من المؤسسات المحلية والجهوية والمادية”، وأهم تلك المؤسسات هي مؤسسات الثقافة والإعلام، والتي باتت خارج المشهد أخلاقيًا، وأخرجت معها ما سُمّي بـ”المثقف” المنحاز لإحداها، وهذا حال أكثرنا! ما يستوجب السؤال مجددًا: من هو المثقف؟ وما دور الثقافة في التهافت السوري غير المنتهي؟

أدوار الثقافة والمثقف تمايزت في النموذج الأوروبي بين مثقف مفكّر وتنويري، مثقف محافظ، وآخر ثوري، وآخر معتدل، واليوم؛ المثقف التخصّصي أيضًا. فيما ما زالت في عالمنا الأسير، الشرق الأسير بالسلطات أولًا وبالأداليج (جمع أدلوجة على وزن أنشوطة) الموالية والمعارضة ثانيًا؛ رهينة الاختلاط اللامنتهي بين المثقف والأدلوجة الفكرية والسياسية والحزبية ومنظّريها.

الفعل القيمي والإنساني والمعرفي العام الذي يمكن أن يمارسه المفكّر Intellectual (والذي اشتقّت منه كلمة مثقّف باللغة اللاتينية). المثقف يفكّر ويتصوّر، ينظر من خارج الصندوق إلى أبعاد الواقع جميعًا، يقوم بفعل العناية ورعاية مفاهيمه وقيمه الإنسانية وتواصلاته المعرفية في حيز عام اسمه ثقافة Culture، والتي تشير لغويًا في معناها العميق إلى رعاية الأرض وتنميتها، ومنها اشتقّ مصطلح الهندسة الزراعية Agriculture، التي تحيل بعد الاعتناء والاهتمام والتنوير للتخصص لغويًا وممارسةً. موقع المثقف والثقافة هنا هو موقع الحذّاء والفيلسوف “ياكوب بوهم”، يتصور الحذاء قبل صناعته، يمارس فعل الصناعة بيديه، وحين يختبر ملاءمته للسير لا يتردد في تعديل تصوره وصنعته بحيث يحقق الراحة والجودة. الثقافة تصوّر وتفكّر، صنعة ونحت وممارسة، وعودة على التحسين مرة خلف مرة، حتى وإن تأذت أصابع يديه في أثناء الفعل والممارسة. فيما ممارسة فعل “الثقف” من منظور لغويّ عربي، هو إعمال السيف وإقامة حد القتل، دور النفي والإزاحة الكلّية! وكأن الموروث القبليّ ساري المفعول بأغلبية أداليج العمل السياسي والحزبي، والفعل الممارس من خلالها. فعل وتصوّر لا يخرج عن الثقف وإقامة الحد وتجليس اعوجاج الرأي المختلف بالقوة! فعل يقيم مجزرة للمربع والواقع والرؤية، فكلّ يرى الواقع من زاويته، ويقوّم رؤية الآخر بالنفي المطلق نظريًا ووجوديًا أيضًا. فيما رعاية الحقوق والاعتناء بالاختلاف وحرية الرأي تبدو مسألة نافلة ماديًا ومعنويًا. كيف وأنّ الدارج أن “المثقف” هو القارئ والموسوعي الشمولي، والذي غرضه إفحام الآخر وإلغاؤه وممارسة التوجّه

السياسي التنافسي الذي يعمل على إزاحة الخصم كلّية. ما يجعل الرؤى والمشاريع حادّة الزوايا هي المهيمنة، وهذه محنة كبرى!

المحدِّدات والأنماط الثقافية

ثمة ما لا يمكن وضعه في قوانين جاهزة على الفكر والثقافة كما المواد والشروط الطبيعية. لكن يمكن في كل لحظة تحديد المشتركات والسمات العامة التي تصف مرحلة أو حقبة بحسب سواد الأغلبية فيها، فيما الاستثناء يبقى في قيد سؤال معرفيّ وحياتيّ مختلف. فقد درجت معظم أنماط المثقف العربي، ومنها السوري، على الارتباط بنماذج جاهزة ومسبقة الصنع فكريًا وأيديولوجيًا على وضع سمات مسبقة على المشتغلين بالشأن العام وخاصة الثقافي منها، فهناك:

– المثقف الناقد والمختص في مجالات محددة أدبية أو فنية أو فكرية، وهذه شكلت حيزًا حواريًا نقديًا عريضًا في أواسط القرن الماضي بدايات النهضة العربية، لكنها خفتت نسبيًا مع تقدم منظومات العسكر في إحكام السيطرة على مناخات الحياة السياسية والثقافية العامة وظهور الحركات الراديكالية التكفيرية في ظلّها. فبات اعتقال المثقف غير المنظّر للسلطة الحاكمة قانونًا سياسيًا، وتكفير ورجم المختلف فعلٌ متوالد يوميًا، فتكفير “نصر حامد بو زيد” أو محاولة اغتيال “نجيب محفوظ” في مصر؛ أدلة لا تخطئها عين. ما جعل معظم النقاد المثقفين يكتفون بالحيز الأدبي واللغوي والثقافي النظري العام، مبتعدين عن الشأن العام تجنبًا لبطش السلطات أو الحركات التكفيرية.

– في المقابل برز دور “مثقف” السلطة والذي يعمل كشعراء البلاط في القرون الماضية ويقدّم توصيفات مزينة للحكام والسلاطين ويأخذ مكانة وحظوة عند صنّاع السياسة وحكّام البلاد. يحتلّون منابر الإعلام والمراكز الثقافية والفنية العامة ويمارسون دور الأوسمة والزينات التي تخفي خلفها مفعول السلطات القائمة وممارساتها العدائية لكل مختلف. لقد اختار “متثقافوا” السلطات عن طواعية، وإلى اليوم، نرجسيةً ذاتية مولعة بالحفلات والابتعاد الطوعيّ عن الناس وعن الواقع وهمومه.

– بين هذين النمطين الأكثر رواجًا على ساحة المنطقة في العقود الماضية برزت أنماط متعددة من المثقفين، فهناك:

· المثقف الماركسي ذو الدور القيادي، “الأنتلجينسوي”، في المجتمع والمنوط به حمل قضايا الأمة في الاشتراكية وقيادة الطبقة العاملة.

· وهناك المثقف الموسوعي القادر على الإجابة عن أي سؤال مطروح أمامه، في الفن والشعر والسياسة، والاقتصاد، وفي علوم الاجتماع وفي كرة القدم أيضًا.

· والمثقف القوموي الذي ينظّر “لطيف وحدة عربية كيفما شاءت فلتأتي”، محمّلة بالوهم والخيال من دون الواقع والممكن والمعطيات. وهذه الأنماط من الثقافة -ومنها ثقافة المثقف السلطوي- مارست ذات الدور الذي ينضح من ثقافة إعمال السيف في الآخر ونفيه كلّية، تثاقف ومثقف إرادوي يفرض رؤيته وإرادته بالقسر والتخوين للمختلف، ويتفرد بوحدانية الاتجاه والاستقطاب الحاد الذي يقيم هذه الحواف الحادة في حوار الشأن العام والقضايا الوطنية لليوم، بينما تلاحقه لعنة السلطات وتكفير الأجندات الأخرى كلما سعى في الاتجاه المختلف.

– بينما بقي المثقف العضوي بحسب تعريف غرامشي، المثقف المرتبط عضويًا مع قضايا أمّته وشعبه تنويرًا وفكرًا وممارسةً، أسير قدرته على الحركة في الوسط الاجتماعي والسياسي في آن، فقلّما أتاحت له سلطة العسكر التحرّكَ الفاعل في مجتمعه، ونادرًا ما أتيحت له منابر الحديث العلني أو التعبير المباشر سوى بالكتابة، وهذه محطّ سؤال فيمن يقرأ أو متى يقرأ؟ وغالبًا تكون بعد موته.

المثقف العضوي الذي يربط بين فكره وثقافته وقيمه الإنسانية العامة وبين ناسه ومحيطه ومشكلاتهم وحياتهم ويدافع عن قضاياهم ويقيم جسور التواصل الفعلية مع محيطه الحيوي من البشر بآمالهم وأحلامهم، يحاورهم ويفكر معهم في الحل عبر تقديم القيم والأفكار ورعاية نموها من دون أن ينظّر عليهم من برج عاجيّ علويّ مُتّهمًا إياهم بالشعوبية أو التخلف! وفي الوقت نفسه يحذّر غرامشي من مثقّفي الأنتلجنسيا الماركسيين الذين يمارسون دور الوصاية التاريخية على البشر ويمارسون معهم دور القادة الواجب اتباعهم، تلك التي عبّر عنها “فيلهم رايش” بقوله: “قفي، قفي أيتها الجماهير البروليتارية، ألا ترين بأني محرّرك!”

تنعيم الحواف الحادة فعلٌ ذو استحقاق وجدارة

وصف جلال الدين الرومي مرحلة التفكك العربي في عهد الدويلات والممالك، بقوله: “إن الحقيقة كانت مرآة في يد الله وقعت وتشظّت، كلّ فرد أخذ قطعة منها، نظر إليها وخال أنه يملك الحقيقة كاملة!” واليوم ليس بعيدًا عن مجريات الأمس، بل ربما فاق في محتواه وكوارثه ما يزيد عنها.

المثقف اليوم ووظيفته الأهم أو ما يمكن تصنيفه بالمثقف العصري، من يستطيع أن يساهم في إعادة ما تشظى منّا اليوم، سواء أكان سياسيًا أو فكريًا أو قيميًا أو أهليًا وطائفيًا، هو من يستطيع الخروج من هذه الحيزات الثقافوية الكلامية الضيقة إلى مساحة الفعل الإنساني العام، معاكسًا تيار الانحدار والمحنة هذا. وربما تحاكي هذه المهمة الشاقة ما كان يفعله الصينيون القدماء حين تنكسر جرة ماء لديهم؛ والماء مصدر الحياة، فيعودون لإعادة صناعتها مرة أخرى قطعة قطعة لتغدو جرة ماء مختلفة عن الأولى التي كُسرت، جرة ماء قد تلوّنت بخطوط روحهم الصانعة والمبدعة. هذا الموقع ليس فنّيًا فحسب، بل إبداعيًا وخلّاقًا يعاكس سير الاستسهال والرّمي الجزاف، أو ما نسميه فكريًا بالنفي البين، الطلاق الذي لا رجعة فيه، في فوضى المحنة السورية العارمة. هو موقف المثقف اليوم حين يكون ذا اتساع ومعرفة، من دون تحيز سياسي وأيديولوجي سوى لحقوق الإنسان والسلام والعدالة للبسطاء من البشر قبل ذوي المشاريع الكيدية السياسية الذي يصرون على تفتيت ما تبقى من أجزاء هذا الوطن جغرافيًا وسياسيًا وعسكريًا وقيميًا.

إن كان ثمة مهمة شاقة يقوم بها المثقف اليوم فهي تلك المسؤولية الفكرية والتاريخية والأخلاقية التي تسمى رعاية المتبقي منا قيمةً وروحًا، تسمى فعلًا ثقافيًا ذا استحقاق وجدارة بلا أوصاف لا قيمة لها… المهمة المتسمة بالقدرة والفعل والتصور والممارسة في تنعيم الحواف الحادة تتجلى بأبهى حلّتها ونكهتها وبُعدها التنويريّ اللحظيّ والمستدام:

– تنعيم الحواف الحادة الدينية والطائفية والبحث الحِواريّ الهادئ في الحقوق الإيمانية المتوازية.

– تنعيم الحواف الحادة بين الأداليج السياسية وأحقية الاستفراد في السلطة لجهة دون غيرها، وإقامة حوار الحكم والتشاركية والتداول السلمي للسلطة وفق القانون والدستور.

– تنعيم الحواف الحادة بين السياسي والاقتصادي، بين الديني الأهلي والمدني المتحرر فرديًا، بين الفكر والممارسة، بين الوجود الراهن ومتطلباته والممكن المستقبلي وإمكاناته.

– تنعيم الزوايا الحادة في هندسة المجتمع بحسب ما تريدها سلطة بعينها، تنقل الوعي المعرفي العام من الزوايا الحادة إلى المجسم، الدائرة التي مركزها القانون ومحيطها الدولة، فيما كل الأفراد متساوون قيمة وحقوقًا من كليهما، مع أحقية الاختلاف في الموقع والصيغة والعمل والتخصص، فلا غلبة لسياسيّ على عامل نظافة، ولا لعالم على مدرّس، ولا لمدير على موظّف إلا بقدرته وفاعليته.

هي مهمّة شاقة وفعل تنويريّ ومحاكاة للهموم والقضايا العامة، ومحاولة جادّة تستحقّ العناية من أجل عدم الوقوع في شرك التوصيف الجائر والجاهز مسبقًا، الذي بات سمة عامة للمحنة السورية، خاصة وإن كان الحديث عن الثقافة والمثقف ودوره الممكن أو الواجب.

جمال الشوفي

كاتب وباحث سوري، دكتوراه في الفيزياء النووية من جامعة القاهرة 2008، له العديد من الأبحاث العلمية حول الوقاية الإشعاعية والطب النووي نشرت في مجلات متخصِّصة، مدرس محاضر في جامعة الاتحاد الخاصة، كلية الهندسة المعلوماتية من 2012 حتى الآن، مدرس محاضر في جامعة دمشق-كلية الهندسة الميكانيكية والهندسية من 2012 إلى 2015. وله نشاطه أيضًا في الحقل الفكري السياسي، ومن كتبه المنشورة: المسألة السورية ومرايا الجيوبوليتيك الدولي، دفاعًا عن الحرية والوطن المهدور، الجدل التواصلي (سؤال العقل والتقنية)، ونشر عددًا من الدراسات مثل “المعارضة السورية بين بذور الحرية وطعوم الاستبداد- دراسة نقدية بنيوية” المؤسسة السورية للدراسات وأبحاث الرأي العام، 2016؛ و”المجتمع المدني السوري بين الرؤية والواقع/ مخاض تجربة وهوية تتشكل” في العدد الأول من مجلة (قلمون) للدراسات والأبحاث – أيار 2017، وله العديد من المقالات المنشورة في صحف ومواقع عديدة، نال الدرجة الثالثة في مسابقة جائزة ياسين الحافظ في الفكر السياسي للعام 2017.

مشاركة: